إن الذي انتهى فعليا و عمليا هو الصراع العلني المركز ضد الحداثة كمصطلح و كميدان وحيد للصراع والنقاش، ثم إن الذي انتعى فعليا أيضا هو بعض الأسماء التي كانت متوهجة في الثمانينات وتراجعت بعد ذلك وانطفأت.
غير أن الحداثة ظلت تتفاعل بطرق و أساليب تنوعت و تعددت على صور كثيرة سنعرض لأهمها في عناوين مقتضبة، وهي كالتالي:
1- كان التصور العام في بداية الثمانينات يركز على الحداثة الشعرية ويكاد يحصرها في ذلك، ثم جاء تطور نوعي وجذري في منتصف الثمانينات نقل هذا التصور ليتركز على النظرية النقدية، واشتعلت نيران الصراع حول ذلك، وظلت على مدى عقد كامل. وهذا هو تاريخ الصراع وخلاصته في تلك الفترة. وكتابي هذا يحكي حكاية هذا الصراع.
2- في مرحلة التسعينات حصل تطور نوعي آخر في الدرس النقدي النظري ذاته حيث دخلت النظرية في مرحلة أكثر انفتاحا وأوسع رؤية ولم تعد الأسئلة محصورة في الشعر والأدب، بل طرح السؤال الثقافي حول اللغة و المرأة و الإنسان، وتطورت النظرية النظرية لتصل الى سؤال الأنساق الثقافية. وشمل ذلك الخطاب الثقافي بكل تكويناته و معه السؤال السياسي والاجتماعي، و هذا نقل بؤرة الاهتمام من الأدب والشعر إلى الخطاب الثقافي والحضاري. و هذا تغير نوعي لا يعني نهاية شيء و إنما هو تحول معرفي ضروري و حيوي.
3- تبدلت الوجوه والقضايا تبعاً لهذه التحولات فجاءت أسئلة جديدة و جاءت وجوه جديدة، بعضهم نقاد عادوا من بعثاتهم في فرنسا و أمريكا، و بعضها لناقدات مثل فاطمة الوهيبي ونقاد شباب دخلوا المعترك مع نظريات داعمة كالحوارية التي طرحها معجب الزهراني العائد من السوربون في مطلع التسعينات و السردية التي تبناها نقاد عادوا من أمريكا مثل عبد العزيز السبيل و حسن النعمي، و جاء النقد الثقافي كنظرية ومنهج في الرؤية و الأسئلة.
4- ظهرت الرواية بقوة في التسعينات و كان هذا تحولاً ثقافياً واجتماعياً كبيراً يحدث في مجتمع محافظ تعود على الستر والمداراة و تزكية النفس فجاءه فن يكشف و يفضح و يعترف، وهذا تغير نسقي كاشف و يحمل علامة ذات دلالات عميقة في التحول. كما تطورت فنون أخرى مثل قصيدة النثر التي زاد شأنها بين المبدعين و انتشر كتابها وتحمسوا للنشر وخاصة في بيروت حيث هاجرت تجاربهم الى هناك في احتجاج معلن ضد رفضهم داخلياً. كما تطورت القصيدة النسائية في تجارب شعرية قوية ومؤثرة عند مجموعة كبيرة من الشاعرات اللوتي غيرن النسق الشعري و فتحن للقصيدة أفقاً جديدا و جريئا و قويا. وهذا كله فتوحات ثقافية لها دلالات قوية توحي بالتحول والتطور و ليس بالنهاية.
5- ظلت التغيرات تحدث بشكل جذري و نوعي حتى بدأت مع مطلع القرن الجديد في تحول ضخم تجلى في بيانات المثقفين والمثقفات، حيث ظهر عدد من هذه البيانات فيها تعبير نقدي وفيها وعي اجتماعي وحواري لم يكن معهوداً في مجتمع محافظ، وجاءت فكرة الحوار الوطني بين تكوينات المجتمع مؤسسة لفكرة التعدد والتنوع مع فكرة التحاور بين المتنوعين وبدأ التساؤل عن مفهوم الرأي الواحد بوصفه علامة على النسقية والاتغلاق و ليس قانوناً طبيعياً.
6- ثم هناك الخطاب المفتوح على كل مصارعه، وهو خطاب الإنترنت، حيث بدأت لغة جديدة من الإفصاح تتشكل دون رقيب اجتماعي أو لغوي و دون وسيط، وهذا يفتح مجالا للقول تتغير معه خارطة الأشياء و علاقات السلطة و المرجعية.
هذه كلها علامات على تحولات كبيرة و نوعية تشمل التصور النقدي النظري و أسئلة البحث و تشمل الخطاب المنتج في الكتابة و في البيانات التي هي نوع من الكتابة الجماعية و أساس لتشكيل رأي عام.
و من هنا فإننا لسنا أمام نهاية للحداثة بقدر ما نحن على مشارف عصر(ما بعد الحداثة) حيث الفسيفساء الاجتماعية وحيث التعدد والتجاور وحيث الكشف و الإفصاح، وهذه مؤشرات لمرحلة ما بعد الحداثة، وهذا ما أرى أننا على مشارفه، ولهذا قصة أخرى إلى كتاب آخر.
-------------------------
* مقتطف من الفصل السادس عشر (حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية) عبدالله محمد الغذامي/ المركز الثقافي العربي – الطبعة الثانية/ 2004