يلف نور الصباح البارد دخان الهواء المحيط برؤوسهم. لتبدأ عندها مسيرة العبيد فتعطي همساً متسللا في الأفق يزيد من ارتفاع الشمس ويدفع أنفاسهم للخروج قوية من أنوفهم المتيبسة، ليتمدد الدم إلى أن يصل إلى أطرافهم. مع ارتفاع الشمس تظهر جبال الحفائر صلبة .. باهية، متعطرة بأنفاس الليل. فتسري قشعريرة صباحهم الباكر وتلفح ببردها نفوسهم المرتجفة.
كانوا يساقون، يتقدمهم النخاس بملابسه المتسخة الأطراف وقد اسودت أظافره بجفاف أوساخ تكومت تحتها. بدا كأحد القادة المنهزمين، قديما، متربا، تعلوه صفرة الدهر.
ينتعلون في أقدامهم ما يشبه الجلد القاسي، المربوط في منتصف سيقانهم، لتغدو أقدامهم محاصرة بأنفاس الجلد الميت الملتف حولها. فتجعلهم مرتاعين من الموت الحي الملتصق بأقدامهم المتعبة. تـثار حول أقدامهم الأتربة فيتطاير الغبار ليستنشقوه بخوراً من الأرض الحارة، ويدخلوه إلى صدورهم هماّ يلتقطونه من الهواء.
من أطراف الحفائر الغائرة يتقدمون بهمهماتهم المنتظمة وخطواتهم الساحبة تصدر أصواتاً مرتفعة كلما اقتربوا من الدكة. يلهثون فيسخن الهواء حول وجوههم.
كان بعضهم يستند إلى زميله بينما الصغار منهم لا يكفون عن الكلام. من بعيد يبدون كقبيلة صغيرة من البدو قادمة من وسط الصحراء والشمس فوقهم تتوهج بأشعتها. مربوطين ببعضهم؛ الرجال أولا ثم النساء. عندما تلوح دكة البيع من بعيد؛ يكون العبيد السود منهم قد سخنت الدماء في عروقهم فتضخمت تحت جلودهم اللامعة لتتقسم عضلاتهم مما يرفع سعرهم عند البيع. أما النساء البيض فتضخ الشمس دماءهن فتحمر وجوههن وتغتسل بالعرق، عندها ينشد جلد وجوههن فتصبح صافيةً وكأنها مملوءة صحة وجمال. وعندما يبدأ البيع تختلط الأصوات وترتفع همهمات المنادين بنقاشات لا تنتهي.
لا أَعرف أين شاهدت هذه المسيرة ولا أدري كيف عرفت تفاصيلها الدقيقة ولكنني متأكد من أنها قد حدثت فعلا. أحياناً أَشعر أن هذا حلم فلا يوجد عبيد ولا تنتصب دكتهم في الجوار. لكنني أتحدث عنهم وكأن دكة بيعهم تجسدت أمامي بأطرافها المتداخلة مع ركن هذه الغرفة التي أتربع داخلها. كثيرا ما يحدث هذا معي فيلتبس عليّ الواقع بخيالات لا أَعرف مصدرها. هذه الخيالات تكاد تفقدني صوابي وتجعلني عاجزاً عن قبول فكرة أنها خيالات لا أستطيع تحملها. ربما تتقدم مني وتجاورني مصغية كي نتحمل معاً صراخنا في الأيام. أراها الآن تتمدد إلى أن تصل إلى ذاكرتي لتتشكل معي في هذه الغرفة ومع جثة سراج الأعرج التي مازالت دافئة أمامي. مضحكة هذه الأفكار عندما ابتعد عنها و أتأملها بحياد مزعج.
بعض الأوقات أحتار في فهم انحسار الزمن عندما تتقدم الأحداث كما يحدث الآن. فلا يوجد لدي تفسير لمسيرة العبيد كما ليس لدي يقين بموت سراج الأعرج. لكن جثته تؤكد موته السريع أمامي. ومسيرة العبيد ما تزال ترن في أذني بدبيب هامس. وأراني الآن عاجزاً عن اتخاذ الحركة المناسبة في هذه الدقائق الصامتة التي تمر بي وكأنها لا تعني مرور الزمن. يجب أن أتحرك .. أتكلم .. أتطلع حولي .. أقوم بأي فعل يشعرني بنفسي ووجودي. شددت جسدي ونهضت. اقتربت من جسده حذراً، لمست أعلى خده الأيمن، كما توقعت كان دفؤه منسحباً و أكاد أَشعر بذلك الدفئ يتسرب إلى الأرض ناشراً الخوف حولي.
كل شيء تم سريعاً. حضوري إليه، تحدثي معه وموته كلها حدثت وكأنها تهرب من شيء يتعقبها. أنا لا أنكر أنني كنت أتمنى أن يموت ولكنني لم أتوقع أن يموت أمامي وبهذا الصورة، فرغبتي لم تكن واضحة كفكرة الموت لا نستطيع تجميع ملامحها بصورة واضحة ويقينية إلى أن نمر بالتجربة المربكة ونتقابل مع الموت كأنداد حان وقت صراعهم وحتى هذه لا نعرف من المهزوم لكنه من المؤكد أن هناك نهاية لصراعنا المميت!.
نظراتي إلى الأحداث الآن، كأنها في مفترق الطرق وهي تقف في المنتصف. ثم تتحرك في اتجاهها الذي حددته بعد أن تركزت في ذاتي المذنبة واستشعرت همسها في الابتعاد عن الخطيئة، غير مدركة أنها نظراتي وأنها جزء مني مهما حاولت الابتعاد عنها.
عندما طرقت بابه كنت قد قررت أن أتخلص منه، فهو مقطوع من شجرة كما يقولون، ولن يسال أحد عنه إذا اختفى وستنساه الحفائر مع الأيام. فمن طبائع الحفائر أن تحفر لكل حكاية قبراً تدفن فيه، ولا تسمح بأَن يوضع لأي منها شاهد قبر يميزه عن غيرة. كانت الحفائر نفسها قبراً كبيراً يحتوي الوفاً من القبور الصغيرة والتي تبدو وكأنها ستستمر في وجودها طالما استمرت أسرارها في الكتمان.
لم تكن رغبتي في قتله واضحة تماماً كانت تشبه الأمنية التي أرجو أن تتحقق. ومع أني أَعرف معنى الموت فقد شهدته عدة مرات ولكنها الرغبة اللعينة التي تجعل من مشهد الموت أمامي بارداً و لا يعنيني إنما يتشكل أمامي لتبدو ملامحه غير محددة و أبدو حائرا بين الاستمرار في النظر القاتل وبين التوقف. فأن يموت سراج الأعرج، وهذا الاسم كان تكريماً يطلق عليه من غير الشحات، شيء لا يسبب إزعاجاً لأحد، مثلما هي حياته سائرة منذ البداية بلا هدف ومن غير أن تقترب من أحد غيره.
تبدو الآن ملامح سراج الأعرج أوضح ، فأنا فعلا لم أَستطع تحديد ملامحه بدقة رغم السنين التي عاشها بيننا، إلا أنني أدرك تماما أن كثيرين، مثلي، لا يعرفون من هو سراج الأعرج؟ ذلك الشحات الذي أصبح مع مرور الوقت معلماً من معالم الحفائر. هذه الحارة التي لا تخفى على أي شخص يعبرها متجها إلى الحرم من جهة الغرب، لتظهر له متمثلة بطلعتها المتجهة نحو السحاب. وتعتبر إحدى بوابات مكة إلى الحرم، و أتوقعها دائماً مشرعة أمام كل القادمين من الذنوب، كنافذة مفتوحة للصعود إلى السماء.
وكثيرون أيضاً لا يعرفون كيف أصبح شحاذاً. وأنا لا أتذكر أول مرة رأيته فيها فمنذ أن وعيت نفسي وأنا أراه، أعتبره من الأشياء التي لا يسال عنها بل يجب اعتبارها مسلمات موجودة ويجب التعامل معها مهما كانت غريبة. إلى جانب ذلك فمعرفته بصورة دقيقة لا تعني الكثير فقد جعل نفسه نكرة لا يمكن تعريفها. في أوقات متباعدة أحتار في عدم معرفة الحفائر ملابسات طبيعته الغريبة وأن كنت أجزم بوجود معاني مختفية خلف أسماله المرقعة. شحاذته من النوع المجنون. فهو لا يعيش لكي يشحذ إنما يشحذ لكي يعيش. هو نفسه لا يعرف هذا ولكنني أنا من أطلق عليه هذه المقولة. تذكرني حياته بجمال حيوانات الغابة المنطلقة التي عندما تجوع تأكل باسترخاء ثم تحوم حول نفسها باحثة عن الحياة. ينظر دائماً إلى الأرض يبحث عن شيء غير موجود ولا يقبل أن يعترض أحد طريقه. كان ينطلق من طرف الشارع من غير أن يهتم بالمارة أَو بالسيارات القليلة العابرة بين حين وآخر، ليعبر الطريق ناظرا إلى الأرض باهتمام غريب. لقد كان الأمر محيراً للكثيرين، كيف يمشي من غير أن يصطدم بعمود أَو أحد المارة كأنَّ له عينين وسط رأسه العفن. ملابسه متسخة طوال السنة، مع أنني لم اعد أتبين ما أَصل لونها، إلا أنه دائم العناية بها إذا تمزقت، وإذا تمزقت فقط. لا يعمل أي شيء قبل أن يقوم بخياطتها وترقيعها بأي قطعة قماش تصل إلى يديه؛ فلا يهدأ أَو تستقر ملامحه حتى ينتهي من إصلاحه.
---------------
مقتطف من الرواية (الحفائر تتنفس) عبدالله التعزي – دار الساقي