(نحن نسلِّم، عند النظر إلى التكوين الطبيعي لكائن عضوي، أعني لكائن أعد للحياة، بمبدأ أساسي مؤداه أنهما من عضو فيه جعل للوفاء بغاية من الغايات إلا وكان أنسب الأعضاء لتحقيق هذه الغاية وأكثرها ملاءمة لها.
فلو كان الهدف الأساسي الذي تقصد إليه الطبيعة من كائن ذي عقل وذي إرادة أن توفر له البقاء والهناء وبالجملة السعادة لكانت قد أساءت الاختيار إذ جعلت عقل هذا المخلوق أداة لتنفيذ غرضها.
فلو كان الهدف الأساسي الذي تقصد إليه الطبيعة من كائن ذي عقل وذي إرادة أن توفر له البقاء والهناء وبالجملة السعادة لكانت قد أساءت الاختيار إذ جعلت عقل هذا المخلوق أداة لتنفيذ غرضها.
ذلك لأن جميع الأعمال التي ينبغي على هذا الكائن الحي أن يؤديها لتحقيق هذا الغرض وكذلك قاعدة سلوكه بتمامها كانت ترسمها له غريزته على وجه أدق، وذلك الغرض كان سيتحقق بطريقة أضمن مما كان يعجز عنه العقل لو أنه حاول ذلك؛ ولو أن هذا المخلوق وهب العقل لما نفعه شيء إلا في نسج تأملات تدور حول الاستعدادات الطبيعية التي وفقه الحظ إليها، والإعجاب بها وتهنئة نفسه بما رزق منها والتعبير عن شكره للعلة التي أنعمت عليه بها؛ لا في إخضاع ملكة الاشتهاء والرغبة لديه لتلك القيادة الضعيفة المضللة والانحراف بالطبيعة عن قصدها وغايتها؛ وبالجملة فإنها تكون قد اتخذت الحيطة لتمنع العقل من أن يسير في طريق الاستخدام العملي أو يتجاسر فيحاول، ببصيرته الكليلة، أن يضع خطة السعادة والوسائل المؤدية إليها ولعهدت بهما جميعاً إلى الغريزة وحدها).
(فإذا صح القول بعدم وجود مبدأ أعلى أصيل للأخلاق يقوم بالضرورة على العقل الخالص وحده مستقلاً عن كل تجربة، فإنني أعتقد أنه لن يكون هناك ما يدعو حتى للسؤال عما إذا كان من الخير أن نعرض هذه التصورات عرضاً عاماً (مجرداً) على نحو ما هي موجودة قبلياً مع جملة المبادئ المتصلة بها، على فرض أن المعرفة (الجديرة بهذه الكلمة) ينبغي أن تفترق عن المعرفة المشتركة و أن تحمل اسم المعرفة الفلسفية. ولكن يبدو أن هذا السؤال لا غنى عنه في زماننا هذا. ذلك لأننا إن جمعنا الأصوات لنعرف ما يقف منها في وصف المعرفة العقلية الخالصة النقية من كل تجربة، وبالتالي ميتافيزيقا الآيين وما يختار منها الفلسفة العملية الشعبية، فإننا سرعان ما نخمن أي الكفتين هي الراجحة في الميزان.
إن الهبوط إلى التصورات الشعبية أمر محمود حقاً، إذا تيسر قبل ذلك أن نرتفع إلى مبادئ العقل الخالص ونبلغ من ذلك مبلغاً يرضينا إرضاءً تاماً. ومعنى هذاأن نؤسس مذهب الأخلاق أولاً على الميتافيزيقا، فإذا رسخ بنيانها عمدنا بعد ذلك إلى تيسيرها بالتناول الشعبي. أما أن نسمح بذلك منذ البحث الأول، الذي تتوقف عليه صحة المبادئ، فأمر بالغ الخلف والاستحالة. إن الأمر لا يقتصر على أن هذه العملة لن تستطيع أن تزعم لنفسها شرف فلسفة شعبية حقيقية فحسب، وهو شرف نادر عزيز المنال، إذ ليس من الفن في شيء أن يكون الإنسان مفهوماً لعامة الناس حين يضحي بكل عمق في التفكير؛ بل إنه لن ينتج عنها غير خليط يثير الاشمئزاز، خليط من الملاحظات التي التقطت باليمين والشمال و من مبادئ أنصاف العقول، يرتع فيه أصحاب العقول الضحلة، وينعمون، لآنهم يحتاجون إليه في هذرهم اليومي، ولا يجد فيه ذوو البصيرة إلا الاضطراب الذي لا يملكون في سخطهم عليه وعجزهم مع ذلك عن حماية أنفسهم منه إلا أن يحولوا أعينهم عنه؛ و إذا كان هناك فلاسفة ينفذون بأبصارهم خلال هذا السراب الخادع فإنهم لا يجدون مع ذلك من يصغى إليهم إلا قليلاً، حين يحذرون بعض الوقت من الشهبية المزعومة ويتبينون أنه لا يتسنى للإنسان أن يكون شعبياً بحق حتى يحصل أنظاراً معينة ويصل إلى آراء محددة)
* مقتطفات من (تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق) أمانويل كانت 1785/ترجمة د.عبد الغفّار مكّاوي
إيمانويل كانت : فيلسوف الماني ، من اهم مؤسسي الفلسفة الأخلاقية | بالألمانية: Immanuel Kant
خاص بالمسيرة الإلكتروني