شهد العقد المنصرم اهتماماً متزايداً بمجالين متداخلين من مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية، هما الذاكرة والجغرافيا، أو بصورة أدق، دراسة الفضاء الإنساني، وقد ولّد كل من هذين المجالين قدراً بالغاً من الأعمال اللافتة التي خلقت حقولاً جديدة من البحث والاستقصاء.
فعلى سبيل المثال، اتسع الاهتمام بالذاكرة ليشمل أشكالاً من الكتابة حيث يتزايد انتشارها كالمذكرات الشخصية والسيرة الذاتية التي لم يبق كاتب من كتاب القصة المشهورة إلاّ وحاولها، فضلاً عما فاض به الأكاديميون والعلماء والشخصيات العامة، وغيرهم. ولم يبق الولع القومي بالذكريات والاعترافات والشهادات عند مستوى الاعترافات العامة والعلنية ـ كما هو الحال في فضيحة كلينتون ولوينسكي ـ بل تعمق في دراسات عديدة تناولت معنى الذاكرة الجمعية، وأسهب في دراسة أمثلة عليها وتحليلها، فضلاً عن تناول عدد هائل من الأحداث التاريخية التي تجسّدها. ويبقى طيف هذه الدراسات قد اشتمل، في هوامشه، على تقصِّ جدِّي، ومرير لصدق مذكرات بعينها ومدى موثوقيتها، كما اشتمل في المقابل، ومن الطرف الآخر الأكثر رصانة، على تحليل أكاديمي لافت لدور الاختلاق في مسائل كالتراث والخبرة التاريخية الجمعية.
وسنعرض هنا بعض الأمثلة التي أثارت جدلاً حاداً، لا بل موجعاً؛ من مثل: هل كانت يوميات آن فرانك(2) )، يومياتها حقاً، أم أن الناشرين وأفراد أسرتها، وغيرهم قد تلاعبوا بها، كما نُشرت، لإخفاء الاضطرابات في حياتها المنزلية؟ وقد دار في أوروبا جدّل عنيفٌ حول معنى الهولوكوست، غالباً ما كان لاذعاً إذ ترافق مع سلسلة كاملة من الآراء عمَّا حدث، وسببه، وما يكشفه الهولوكوست عن طبيعة ألمانيا، وفرنسا، والعديد من الدول الأخرى التي تورطت فيه، فقد كتب باحث الكلاسيكيات الفرنسي المشهور بيير فيديل ناكيه منذ عدة سنوات خَلَتْ كتاباً مهماً عنوانه سفاحو الذاكرة يتناول فيه الفرنسيين الذين أنكروا الهولوكوست، كما طرحت محاكمة موريس بلبون(3) ) في مدينة بوردو منذ عهد قريب أسئلة محرجة لا تتعلق بذكريات الاحتلال فحسب، بل بمركزية الدور الذي لعبه الفرنسيون المتعاونون مع النازية، وبما قيل عن المذكرات الفرنسية الانتقائية المتعلقة بحكومة فيشي. ومن الطبيعي أن تشهد ألمانيا جدلاً واسعاً حول الشهادات المتعلقة بمعسكرات الموت ومعناها الفلسفي والسياسي حيث كان يُنْفَخ فيه دورياً ليغذّيه مؤخراً نشرُ الترجمة الألمانية لكتاب دانييل غولدهاغن جلاّدي هتلر الصاغرين. أما في الولايات المتحدة فثمة الغضب الذي أثاره ممثلو الثقافة الرسمية وأعضاء الحكومة بسبب مؤسسة سميثسون، التي تعدّ وبحق واحداً من عناوين الذاكرة الرسمية للدولة، التي مُنِعَتْ من إقامة معرض لـ"إنولا غِي"(4) ) وآخر للتجربة الإفريقية ـ الأمريكية، وسبق ذلك لغط شديد حول المعرض المؤثّر الذي أقيم في الصالة الوطنية للفن الأمريكي تحت عنوان أمريكا بوصفها الغرب، بغية المقارنة بين ممثلي البلد الهنود ؛ سكان البلاد الأصليين، وشروط الحياة في أمريكا الغربية إبَّان ستينيات القرن الثامن عشر، حيث عرضت الطريقة التي تم بها الاستيطان القسري، وتدمير الهنود وتغيير البيئة التي كانت ذات يوم بيئة ريفية مسالمة إلى بيئة مدنية ضارية. فقد شجب السيناتور تيد ستيفنس، من آلاسكا، الأمر برمته بوصفه هجوماً على أمريكا، على الرغم من اعترافه بأنه لم ير المعرض شخصياً، والحال، أن الأسئلة التي تطرحها هذه الجدالات لا تقتصر على ما يتم استذكاره فحسب، بل تطال الكيفية والشكل اللذين يتم بهما هذا الاستذكار، فالقضية تتعلق بطبيعة التمثيل المشحونة، وليس بمحتواه وحده.
تطال الذاكرة، وما يمثلها بأهمية بالغة، مسألة الهوية، القومية، القوة والسلطة، فدراسة التاريخ، سواء كان في المدرسة أو في الجامعة ـ إذ تشكل أساس الذاكرة ـ هي أبعد ما تكون عن الدراسة الحيادية في الوقائع والحقائق الأساسية؛ بل إنها، وإلى حدّ كبير، مسعى قومي يقوم على التسليم بضرورة أن تبني فهم المطلّع وولاءه المَرُوم للوطن، والإرث، والمعتقد. ومن المعروف الجدال العنيف الذي دار في الولايات المتحدة عن المعايير القومية في التاريخ، حيث كان من شأن إثارة قضايا من مثل: هل ينبغي منح متسع من الوقت لدراسة جورج واشنطن، و إبراهام لنكولن في المناهج المدرسية أن يسبب نزاعات محتدمة. وبموازاة هذه النزاعات، كما أشار هوارد زِنْ في كتابه، كان ثمَّة تشكيك في سبب تمجيد دراسة التاريخ الأمريكي مآثر الشخصيات البارزة وتجاهلها ذكر ماحدث لمآثر الشخصيات ضئيلة النفوذ؛ أولئك الذين مدّوا السكك الحديدية، وأقاموا المزارع، والذين كانوا ينضحون عرقاً بوصفهم أُجَرَاء في الشركات الصناعية الضخمة مصدر قوة هذه الدولة وضخامة ثراءها. ويتناول زِنْ أيضاً اختلال التوازن هذا في كتابه المثير تاريخ شعب في الولايات المتحدة الأمريكية.) ، ويمضي في مقالة حديثة إلى حدّ أبعد، فبناء على طلب للمشاركة في ندوة عن مذبحة بوسطن، أظهر زِن أنه أراد:
أن يتناول بالبحث مذابح أخرى إذ يبدو لي أن تركيز الاهتمام على مذبحة بوسطن لن يكون له وقع موجع في النخوة الوطنية. وليس ثمة طريقة ناجعة في حجب الانقسامات الطبقية والعرقية في التاريخ الأمريكي أكثر من توحيدنا انتصاراً للثورة الأمريكية ورموزها جميعاً مثل كليشيهات بول ريفير(5) ) التي تمثل الجنود وهم يصوبون بنادقهم نحو حشود الناس).
فقد ذكرت للناس المجتمعين في قاعة فانيول ذات الجدران المرصوصة، من حولنا، بصور الأجداد المؤسّسين وأبطال الجيش القوميين) إنه ثمّة مذابح أخرى، مذابح منسيّة وإنْ ذُكِرَتْ فبشكل واهٍ، مذابح خليقة بالذكر، وقائع مهملة بوسعها أن تخبرنا الكثير عن الهستيريا العرقية و عن صراع الطبقات؛ بوسعها أن تخبرنا عن اللحظات المخزية في أتساعنا القاري وإلى ما وراء البحار، وبذا نستطيع أن نرى أنفسنا بوضوح وصدق كبيرين.(2)
تنقلنا هذه التعليقات على الفور إلى قضية نوقشت مطوّلاً؛ القومية والهوية القومية، وكذلك تنقلنا إلى الكيفية التي تتشكل بها ذكريات الماضي وفقاً لفكرة محددة عمّا "نحن"، وبالتالي، عمّا "هم" عليه فعلياً، فالهوية القومية متورطة باستمرار في السرد؛ سرد ماض الأمة، وسرد أجدادها المؤسّسين، وسرد الوثائق والوقائع الأصلية، وغيره. ولكن لم يُسلّم أبداً بهذا السرد على أنّه مجرد مسألة قص محايد للوقائع. ففي الولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال، أحيت ذكرى 1492 بأشكال متباينة تماماً. فالناس الذين اعتبروا أنفسهم ضحايا قدوم كولومبس؛ وهم الملونوّن، والأقليات، والمنتمون إلى الطبقة العاملة، أناس ادّعوا باختصار، أنّ ذاكرتهم الجمعية متباينة عما أُحْتفى به في معظم المدارس بوصفه نصر للتقدم وتعزيز لمسيرة جمعية للإنسانية نحو الأمام. وبما أن العالم قد تقلّص، لنتأمل السرعة الخيالية لثورة الاتصالات، حيث وجدت الشعوب نفسها تخضع لأكثر التحولات الاجتماعية سرعة في التاريخ، أصبح عصرنا عصر بحث عن جذور؛ عصر تحاول فيه الشعوب أن تكشف في الذاكرة الجمعية لعرقها وديانتها وطائفتها وأسرها عن ماض هو ماضيهم بقضه وقضيضه، ماض في مأمن عن نهب التاريخ وفي مأمن عن حقبة عاصفة. غير أن هذا قد أثار أيضاً نزاعاً عنيفاً، بل تسبب في إراقة الدماء. ففي العالم الإسلامي، ثمة جدل حول كيفية قراءة المرء الإرث الأرثوذكسي سُنّه)، كالخلاف في كيفية تأويل المرء لقصص النبي، وأيّ منها، بشكل أساسي، هي الذكريات التي أعاد بناءها المريدون والصحابة من جديد، وكيف يمكن للمرء أن يستمد صورة معاصرة للشرائع الإسلامية في المعاملة والفقة تكون مخلصة ومتوافقة مع تلك الذكريات الثمينة، الممعنة في القدم، الأصلية في الواقع، وتظهر مثل هذه الخلافات في تأويل الأناجيل المسيحية، وكذلك الأمر مع الكتب النبوية اليهودية. ولها تأثيرها المباشر على قضايا الطائفة والسياسة في هذه الآونة. ويكمن بعضها وراء النزاعات المبّرزة إعلامياً حول القيم الأسرية التي يتبجح بها المرشحون السياسيون، والفلاسفة الأخلاقيون، ووراء التوبيخ العلني.
وأضفي على كامل موضوع الذاكرة هذا، بوصفه مشروع اجتماعي وسياسي وتاريخي، تعقيد آخر أشرت إليه سابقاً، أعني، دور الاختلاق. ففي عام 1983، حرّر مؤرخان بريطانيان بارزان، أريك هوبسباوم وتيرينس رينغر، كتاباً يضم مقالات مؤرخين مشهورين تحت عنوان اختلاق الإرث(3) . ولا أحاول تلخيص الأفكار المتقنة والغنية في هذه المختارات سوى القول أن ما تناوله الكتاب هو الطريقة التي شرع فيها الحكام؛ السلطات السياسية والاجتماعية منذ 1850، في خلق شعائر وأشياء زعمت بقدمها قدم الدهر؛ مثل الكِلْتَية التنورة) الاسكتلندية أو الدُّرْبار(6) )، كما في الهند، مهيّئين بذلك ذاكرة مزيفة، أي، مختلقة عن الماضي بوصفها وسيلة لابتداع معنى جديد لهوية المهَيمِنين والمهيمّنين عليهم. فقد قيل عن الدُّربارـ والنظر إليه بوصفه "إِرثاً" هو تخييل محض ـ أنه مهرجان رسمي ضخم تم إعداده لِيُغْرَس في ذاكرة الهنود ولو أنه قدّم للسلطات الاستعمارية البريطانية خدماته في حمل الهنود بالقوة على الاعتقاد بأن الحكم الامبراطوري البريطاني قديم قدم الدهر، ويقول رينغر: "اعتمد أفراد العرق الأبيض في أفريقيا أيضاً على الإرث المختلق كي يستمدوا السلطة والثقة اللتان أقرَّتا لهم دورهم أيضاً بوصفهم أدوات للتغيير. وعلاوة على ذلك، وبقدر ما تم تطبيقه عن عمد على الإفريقيين، أُعتبر إرث أوربا القرن التاسع عشر المختلق [كإجبار الأفريقيين على العمل على أنهم أجراء في مزارع الأسياد الأوربيين]، بوصفه أداة "للتحديث"(4) . ففي فرنسا الحديثة، وفقاً لهوبسباوم، ومع زوال امبراطورية نابليون الثالث ونشوء طبقة عاملة مسيَّسة كما برهنت كومونة باريس، اقتنعت "البرجوازية الجمهورية المعتدلة"، أنه يمكنها أن تحول دون مخاطر الثورة بإنتاج صنف جديد من المواطنين ليس إلاَّ؛ "بتحويل الفلاحين إلى مواطنين فرنسيين...و)، بتحويل المواطنين الفرنسيين جميعاً إلى جمهوريين صالحين". ومن هنا تحولت الثورة الفرنسية إلى ثورة مؤسّسية في التربية وذلك بتطوير "معادل دنيوي للكنيسة...مشرَّب بالمبادئ الجمهورية ومضامينها". وهناك "اختلاق المراسم الجمهورية. ويمكن تحديد تاريخ أهم هذه المراسم؛ يوم باستيل على وجه الدقة في عام 1880". وإضافة إلىذلك هناك "إنتاج بالجملة للنصب التذكارية الشعبية"، وهي على نوعين أساسيين؛ أولهما صور الجمهورية نفسها مثل صورة ماريان(7) )، وثانيهما صور "شخصيات مدنية ملتحية لأيّ امرئ تتخيّره الوطنية المحلية بوصفه شخصية بارزة".(5) .
وبعبارة أخرى، إن اختلاق الإرث هو ممارسة كثيراً ما استغلتها السلطات بوصفها أداة حكم في المجتمعات ذات التجمعات البشرية، ومع تفكك أواصل الوحدات الاجتماعية الصغيرة؛ مثل القرية والأسرة، وجدت السلطات نفسها بحاجة لأن تبتدع طرقاً أخرى تربط بها بين أعداد ضخمة من الناس، فاختلاق الإرث هو منهج لاستخدام الذاكرة الجمعية بشكل انتقائي من خلال التلاعب بقطع معينة من الماضي القومي، وذلك بطمس بعضها وإبراز بعضها الآخر بأسلوب توظيفي بكل ما في الكلمة من معنى. ومن هنا، ليست الذاكرة بالضرورة ذاكرة أصيلة، بل هي على الأصح، ذاكرة نافعة. ويبرهن الصحفي الإسرائيلي توم سغيف في كتابه المليون السابع أن الحكومة الإسرائيلية استخدمت الهولوكوست عن عمد بوصفها طريقة لتعزيز الهوية القومية الإسرائيلية بعد سنوات من عدم الاكتراث بها.(6) . كما أثبت المؤرخ بيتر نوفيك، في دراسة نشرت حديثاً عن صورة الهولوكوست في مابين اليهود الأمريكيين، أن اليهود الأمريكيين قبل حرب 1967: الانتصار الإسرائيلي على الدول العربية، لم يكترثوا كثيراً بتلك الحادثة المخيفة إلى حد الرعب وفي الواقع، حاولوا عدم تأكيدها على سبيل تفادي اللاسامية).(7) . إنها طريق طويل من تلك المواقف السابقة إلى تشييد متحف الهولوكوست في واشنطن. وبشكل مشابه، غذّى إنكار الحكومة التركية الضلوع في مذبحة الأرمن النزاع المحيط بها.
وما أرمي إليه بالتنويه إلى كل هذه الحالات هو التأكيد أن المدى الذي يشغله فن الذاكرة في العالم الحديث هو بالنسبة إلى المؤرخين والمواطنين العاديين، هذا فضلاً عن المؤسسات، أمرُ يُستفاد منه، ويُساء استعماله واستغلاله إلى حد كبير، وليس شيئاً يقبع هناك دون حراك ليمتلكه أي امرئ أو يحتويه، ومن هنا، فإن الاهتمام بالذاكرة ودراستها أو على وجه التحديد بماض مرغوب فيه ويمكن استعادته هي ظاهرة مُحَمَّلة مشحونة، برزت خصوصاً في نهاية القرن العشرين حيث التغيرات المربكة في مجتمعات كبيرة تفوق التصور ذات تجمعات بشرية منتشرة وقوميات متنافسة، ولعل الأكثر أهمية هو تناقص فعالية الأواصر الدينية والعائلية والروابط السلالية. ويتطلع الناس الآن إلى هذه الذاكرة المجدَّدة، وسيمّا في شكلها الجمعي، ليمنحوا أنفسهم هوية متماسكة وسرد قومي ومكان في العالم، مع أنّه،كما أشرت سابقاً، كثيراً، إن لم يكن دائماً، مايتم التلاعب والتداخل في سيرورة الذاكرة لمآرب ملحة أحياناً في الوقت الحاضر. ومن الملفت للانتباه المقارنة بين شكل الذاكرة الحديث الطيّع غير الثابت بطريقة ما وبين فن الذاكرة المنسق الصارم في العصر القديم الكلاسيكي كما وصفه فرانسيس بيتس.(8) .
فالذاكرة بالنسبة لشيشرون كانت شيئاً بنائياً منظماً فإن أردت أن تتذكر شيئاً ما لأجل كلمة كنت ستلقيها، لتخيلت بناءاً مزوداً بجميع أنواع الغرف والأركان، وقسّمت ببصيرتك أجزاء الذاكرة التي رغبت باسترجاعها ومن ثم صنفتها في أقسام البناء المتنوعة؛ وبينما كنت تتكلم، مررت عبر دهاليز البناء في ذهنك، إذا جاز التعبير، منتبهاً إلى الأماكن والأشياء والعبارات وأنت تسير قُدُماً . بهذه الطريقة كان يتم الحفاظ على الترتيب في الذاكرة. أما فن الذاكرة الحديث فيخضع بشكل أكبر عما كان عليه الأمر سابقاً لإعادة التنظيم المختلق وانتشاره من منطقة إلى أخرى.
وفي ما يتعلق بالجغرافيا،كما أستخدم الكلمة بوصفها معنىً للمكان مبني ومصان اجتماعياً، فقد كانت محط اهتمام الباحثين، والنقاد المعاصرين نظراً لدور المكان التكويني البارز في الشؤون الإنسانية. لنتأمل كمثال سهل، في كلمة العولمة، فهي مفهوم لا غنىً عنه في علم الاقتصادالحديث. وهي دلالة مكانية وجغرافية تدل على وصول العالم إلى نظام اقتصادي قوي.ولنتأمل في الدلالات الجغرافية مثل أوشفيتس(8) )، لنتأمل قوتها ورنينها أيضاً في لحظة معينة من التاريخ أوموقع جغرافي مثل بولندة وفرنسا. ويسري الأمر نفسه على القدس، مدينة وفكرة، وتاريخ كامل،وبطبيعة الحال مكان جغرافي معين، كثيرا ًما رُمز إليه بصورة فوتوغرافية لقبة الصخرة وجدران المدينة والمنازل المحيطة بها المرئية من قمة جبل الزيتون؛ وهي أيضاً مشحونة بتحديدات نفسية عدّة عندما ترد إلى الذاكرة، وعلاوة على جميع ضروب التواريخ والإرث المختلق، تتولد جميع هذه التحديدات منها، غير أن جُلّها في صراع مع بعضها.. ويزداد هذا الصراع حدة من خلال الموقع الميثولوجي؛ الذي يقف قبالة الموقع الجغرافي، لمدينة القدس، حيث مشهدية المكان والأبنية والشوارع التي تعلوها، لا بل المغشّاة كليّة بتداعيات رمزية تحجب تماماً الواقع الوجودي لما هي عليه القدس بوصفها مدينة ومكان. ويمكننا قول الشيء نفسه عن فلسطين، فمشهدية المكان يؤدي وظيفة ما في ذاكرة اليهود بشكل متباين كلياً عما هو عليه الأمر مع ذاكرة المسيحيين التي بدورها تتباين عن ذاكرة المسلمين. ومن أغرب الأشياء التي صَعُبَ عليّ إدراك كنْهه هو الاستحواذ الذي استبدّ به المكان على الصليبيين الأوربيين على الرغم من المسافة الشاسعة التي فصلتهم عن البلد. فمشاهد صلب المسيح وميلاده،، مثلاً، تظهر في لوحات فناني النهضة الأوروبية، وكأنها تجري في فلسطين ممسوخة نظراً لأن أيّاً منهم لم يشاهد المكان في حياته. فقد اتخذ هذا المكان تدريجياً شكل مشهدية مثالية غذّت المخيلة الأوروبية لعدة مئات من السنين. ولن يخفق برناردو كليرفو(9) ) في أن يدهشني إنْ وقف في كنيسة في فيزلي في أحضان بورغنديا معلناً عن حملة صليبية تطالب باسترداد فلسطين وأماكنها المقدسة من المسلمين، ولن أُدهش أيضاً إنْ كان اليهود الصهاينة لم يزل بمقدورهم أن يشعروا، بعد مئات السنين، أن فلسطين تقف هناك ساكنة وأنها لا زالت لهم، على الرغم من الألفيات التاريخية وعلى الرغم من وجود قاطنيها الفعليين. وهذه أيضاً تُظهر كيف يمكن التلاعب بالجغرافيا واختلاقها ونعتها تماماً بمعزل عن حقيقة الموقع الطبيعية.
ويؤرخ سيمون شاما في كتابه مشهدية المكان والذاكرة لعلاقة التنقل ذهاباً وإياباً بين موقع جغرافية معينة والمخيلة الإنسانية. ومما لا يرقى إليه الشك أن أحد أهم مظاهر كتاب شاما قوة: هو أنه يبرهن وبشتى الطرق المتباينة أن الغابات والقرى والجبال والأنهار ليست ذات حدود مشتركة مع واقع راسخ يقبع هناك يعين هويتها ويمنحها الثبات والدوام. بل على العكس، ففي المثال الذي يضربه عن القرية الأصلية لأسرته في لتوانيا، التي اختفت معظم آثارها، يجد بدلاً عنها من خلال أشعار آدم ميكفيتش(10) ) كيف "تشابك اليهود والبولنديين.... في مصير مشترك".. على الرغم من قناعاته المعاصرة بأنهم كانوا "حتماً دخلاء على بعضهم"... فالجغرافيا لا تحفز الذاكرة فحسب، بل تحفز الأحلام والأخيلة، تحفز الشعر والرسم والفلسفة كما في كتاب هايدغر Holzwege) والقصة انظر إلى روايات وولتر سكوت التي تجري أحداثها في الأراضي الجبلية)، والموسيقى كما في فينلانديا لـسيبيليوس(11) ) وربيع آبلاشيا لـ كوبلاند(12) )..)(9) .
غير أن ما يهمني أمره بصفة خاصة هو استحواذ الذاكرة والجغرافيا على الرغبة في الغزو والهيمنة. ولا يرتكز كتابيّ، الاستشراق والثقافة والإمبريالية، على فكرة ما أدعوه بالجغرافيا المتخيلة فحسب؛ أعني، اختلاق فضاء جغرافي، وبناءه، يُدعى الشرق، مثلاً، وعدم الاهتمام بفعلية الجغرافيا وقاطنيها، بل يرتكزان أيضاً إلى ترسيم حدود المناطق وغزوها وضمّها في كلٍّ ما سمّاه كونراد بأماكن الأرض المظلمة وفي أكثر الأماكن عماراً وحَيَياً مثل الهند وفلسطين. ولم يكن الحافظ وراء رحلات الاكتشافات الجغرافية العظيمة، من فاسكو دا غاما إلى الكابتن كوك، الفضول والحماس العلمي فحسب، بل أيضاً روح الهيمنة التي تصبح جليّة بمجرد أن يحط الرجل الأبيض رحاله في أماكن قضيّة مجهولة، ويثور السكان الأصليون عليهم. وتعد حكاية روبنسون كروزو في العصر الحديث إحدى الحكايات الرمزية الجوهرية عن الكيفية التي تمضي فيها الجغرافيا والغزو معاً، مهيأة بذلك تصوراً مسبقاً ومخيفاً، بعد مرور عدة عقود، على شخصيات تاريخية مثل كلايف وهاستينغز في الهند، أو المغامرين والمستكشفين مثل مارشيسن في أفريقيا.وتُخْلِي هذه الخبرات الطريق لذكريات معقّدة سواء تعلق الأمر بالسكان الأصليين أو في حالة الهند) البريطانيين؛ وهناك جدل ذاكرة مشابه حول المناطق يشجع روايات عن العلاقات الفرنسية ـ الجزائرية فيما يتعلق بـ130 سنة من الحكم الفرنسي في شمال أفريقيا. إذْ يقول بعضهم أنه ماكان ينبغي علينا ترك الهند و الجزائر أو التخلي عنهما، ويستخدمون في موقفهم هذا آراء رجعية غريبة مثل إحياء الحكم البريطاني؛ وكطريقة لإثارة الحنين دورياً إلى الأيام الخوالي للسيادة البريطانية في آسيا وأفريقيا حيث نجد هذا المقدار الوافر من المسلسلات والأفلام مثل الجوهرة في التاج، وطريق إلى الهند وغاندي وموضة لبس بزّات الرحلات والخوذ وجزمات الصحراء، وعلى الأرجح سيقول معظم الجزائريين والهنود أن تحررهم كان نتيجة أخذهم، بعد سنوات طويلة من الكفاح القومي، زمام شؤونهم، وإعادة تأسيس هويتهم وثقافتهم ولغتهم، والأهم من هذا كله، إعادة استملاك أراضيهم من الأسياد المستعمرين. ومن هنا، وإلى حدٍّ ما، نشهد البزوغ الرائع للأدب الأنغلو ـ الهندي مع آنيتا دِيْسَيَّ وسلمان رشدي وآرانداتاي روي، وغيرهم، حيث يعيدون تنقيب الماضي ورسمه من وجهة نظر مابعد كولونيالية وبذا يشيدون فضاءاً مابعد كولونيالي جديد.
ومن السهولة بمكان أن نفهم واقعة الإزاحة في التجربة الاستعمارية فهي في الصميم تبديل سيادة جغرافية، هي سيادة إمبريالية)، بأخرى، هي قوة محلية)، أما الصراع الثقافي اللانهائي حول المناطق فهو صراع أكثر إتقاناً وتعقيداً وهو متورط لا محالة في ذاكرة وسرد وبنّى مادية متعالقة. ولم يبحث أحد في هذا الأمر بقوة بحث الراحل رايموند ويليامز في كتابه الكلاسيكي الريف والمدينة. فما عرضه ويليامز هو أن الأشكال الأدبية والثقافية؛ مثل القصائد الغنائية والنشرات السياسية وأنواع الروايات المتباينة تستمد بعض أسسها الجمالية من التغيرات التي تحدث في الجغرافيا أو في مشهدية المكان نتيجة تنازع اجتماعي. سأوضح الأمر بطريقة ملموسة؛ إن قصائد البيت الريفي في منتصف القرن السابع عشر حتى منتصف القرن الثامن عشر، بإبرازها سكون البيت المهيب والانسجام الكلاسيكي ـ "مركز الجنة، وحِجْر الطبيعة" ـ هي ليست نفسها في قصائد مارفل وبن جونسون وفيما بعد ألكسندر بوب. فجونسون يسترعي الانتباه إلى الطريقة التي كُسِبَ بها البيت من الفلاحين المزعجين المتجاوزين حدودهم؛ في حين أن مارفل يفهم بطريقة أكثر تعقيداً أن البيت الريفي هو حاصل اتحاد المالية بالملكية والسياسة، أما في قصائد بوب فقد أضحى المنزل ضرباً من مركز أخلاقي، وفيما بعد ومع جين أوستن في مُنتَزه مانسفيلد أصبح البيت الريفي عنواناً لكل ماهو صالح وحميد في إنكلترة، وفي أعمال هؤلاء الأدباء الأربعة يتم تعزيز الملكية؛ فما نشاهده هو الغلبة التدريجية لجدل اجتماعي يحتفي بفضائل وموجبات طبقة مالكة التي يبدو أنها في أفضل حالاتها تمثل الأمة. وفي كل حالة يتذكر المؤلف الماضي بطريقته الخاصة؛ ومن خلال النظر إلى الصور التي تجسد ذلك الماضي، يحتفظ بماض ما، ويطمس الآخر. أما الكتّاب الذين تَلُوْهُم، لنقل، روائيي المدينة كـديكنز وثاكاري، فقد كانوا يتطلعون إلى هذه الفترة بوصفها ضرب من فردوس ريفي تردَّت عنه إنكلترة؛ فبهاء الحقول قد حل محله مدينة صناعية معتمة حالكة مكدرة.وكلا الصورتين؛ المستعادة والمعاصرة، يقول ويليامز، هي بنى تاريخية، وأساطير الجغرافيا تشكلها ـ في الفترات المختلفة ـ طبقات ومصالح وأفكار متباينة حول الهوية القومية و الحكومة والدولة برمتها، وليس بينها من هو بمنأى عن الصراع الفعلي والنزاع البلاغي.
إن ما تناولته أعلاه؛ أي، التفاعل بين الجغرافيا والذاكرة والاختلاق من حيث أنه كلما كان ثمّة استعادة ذكريات يجب أن يكون هناك اختلاق، هو تناول وثيق الصلة بصفة خاصة مع مسألة في القرن العشرين؛ وهي قضية فلسطين، التي تَضْرِبُ مثلاً على صراع غني وشديد الخصوبة أقلّه بين ذاكرتين، ضربين من الاختلاق التاريخي، وضربين من المخيلة التاريخية. وما أحاول أن أبرهن عليه أنه يمكننا أن نتخطى إلى ما وراء عناوين وسائل الإعلام وتكرار تفسيراتها المختزلة للصراع في الشرق الأوسط، وأن نتبين فيها صراعاً أكثر اتقاناً مما يتم تناوله عادة. وبفهم التمازج المكاني بين الجغرافيا عموماً ومشهدية المكان بصفة خاصة وبين ذاكرة تاريخية وشكل اختلاق لافت، كما ذكرت آنفاً، يمكننا أن نبدأ بإدراك كنه استمرار الصراع وصعوبة حلّه؛ صعوبة أكثر تعقيداً وضخامة عما قد تتصوره عملية السلام الجارية، هذا إذا تجاوزنا عن ذكر الحل.
لنضع بعض التواريخ والأحداث ذات الصلة بجانب بعضها الآخر. فالفلسطينيون يتذكرون سنة 1948 بوصفها سنة النكبة، إذْ رُحِّل 750000) شخص منّا كانوا يعيشون هناك؛ ويمثلون ثلثي السكان، ووضعت اليد على أملاكنا، ودُمِّرت مئات البيوت، وأُزيل مجتمع كامل. أما سنة 1998 فقد كان بالنسبة للإسرائيليين والكثيرين من اليهود في أرجاء العالم هي الذكرى الخمسين لاستقلال إسرائيل وتأسيسها، القصة المعجزة للعودة التي تلت الهولوكوست، والديمقراطية وجعل الصحراء مزهرة، وغيره. إذن، ثمَّة بناء خصائص متباينة تماماً عن حادثة مستعادة. وما يتبادر إلى ذهني منذ أمد طويل حول هذا التناقض الجذري في أصل الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي هو الاستبعاد الروتيني عن أخذه بعين الاعتبار في مسائل متصلة به تتعلق بالذاكرة العرقية أو الجمعية، والتحليلات الجغرافية، والتفكير السياسي، وهذا الاستبعاد على أوضح صورة له في الدراسات التي تتناول النكبة الألمانية بالإضافة إلى الصراعات العرقية في يوغسلافيا السابقة وفي راوندا وأيرلندة، وسيريلانكا وجنوب أفريقيا وغيرها.
لنتناول ألمانيا أولاً، فمما لاشك فيه أنه من الأهمية بمكان الحيلولة دون أن ينكر سفاحو الذاكرة الهولوكوست أو التقليل من شأنه؛ ولكن من الأهمية بمكان أيضاً ألاّ ننسى توضيح الصلة، الراسخة تماماً في الوعي اليهودي المعاصر، بين الهولوكوست وتأسيس إسرائيل بوصفها جنة اليهود. ومما لمْ يُصرَّح به عملياً البتة أن هذه الصلة تعني. أيضاً تجريد الفلسطينيين من بيوتهم ومزارعهم، ومع أنها تزيد في كرب حالة الفلسطينيين؛ فهم يتساءلون: لما ينبغي علينا أن ندفع ثمن ماحدث لليهود في أوربا، وهوفي المحصلة إبادة جماعية غربية مسيحية؟ لا تبرز هذه القضية مطلقاً في الجدل حول أو في ألمانيا، برغم أن حقائق مثل الأموال الضخمة التي تقدمها ألمانيا إلى إسرائيل كتعويض عن الهولوكوست تنطوي مباشرة على أنها أوربية وتبينت هذه الواقعة أيضاً في الدعاوى ضد البنوك السويسرية. ولا أتردد في القول، أجل، ينبغي على ألمانيا وسويسرا أن تدفعا الأموال، ولكن هذا يعني أيضاً أن الفلسطينيين الذين بذلوا خسائر فادحة طيلة خمسين سنة مضت جديرون بآذان صاغية، سيّما أن دفعات الأموال هذه تنفق لتعزيز الهيمنة الإسرائيلية على الأراضي التي خسرناها في 1948، وتعزيز هيمنتها أيضاً على المناطق المحتلة في 1967.
ولم يتلق الفلسطينون، ولو حتى اعترافاً رسمياً طفيفاً بالظلم الشامل الذي تعرضوا له، فما بالك بركام الدعاوى المادية ضد إسرائيل لقاء الممتلكات التي أُخذت، والناس الذين قُتلوا، والبيوت التي هُدمت، ووضع اليد على المياه، وإقامة المعتقلات وغيره. وثمة قضية مسؤولية بريطانيا المعقدة التي هي في حكم سابقتها كثافةً وبُعْد أثر. وما يذهلني هو رفض السرد الإسرائيلي الرسمي أن يدخل في حسابه اشتراك الدولة ومسؤوليتها عن تجريد الفلسطينيين من ملكيتهم. فطوال سنوات كانت هناك حملة دؤوبة دفاعاًعن نسخة مستنفدة من سرد إسرائيلي طنان عن عودة اللاجئين، وإقامة العدل ألغت أي احتمال لسرد فلسطيني، ويعود هذا بجزئه الأكبر إلى أنه ثمة أجزاء أساسية معينة في القصة الإسرائيلية برَّزَت خصائص جغرافية محددة لفلسطين نفسها. لنأخذ الفكرة الأساسية للتحرير؛ إن قصة استقلال اليهود وانبعاثها ثانية بعد الهولوكوست كانت قوية تماماً لدرجة أنه أصبح عملياً من المتعذر طرح سؤال، ستستقل وتتحرر ممن؟ وإذا كان السؤال قد طُرِحَ فإنَّ الجواب كان دائماً التحرر من الامبريالية البريطانية، أو، مع الإطناب في القصة، حماية من الجيوش العربية الغازية في طلب تحطيم دولة فتية.. وهكذا، تلاشى الفلسطينيون في الغموض المهدد والطوق الذي يلف "العرب" وغُيِّبت وأُنكرت في آن معاً حقيقة كونهم السكان الفعليين!
ولعل أعظم حرب شنها الفلسطينيون بوصفهم شعباً هي حرب بخصوص حقهم الشرعي بحضور له ذاكرة، ومع ذلك الحضور، حقهم في الامتلاك وحقهم في استرداد واقع تاريخي جمعي، أقلّه مّذْ أنْ بدأت الحركة الصهيونية في انتهاك الأرض. وعلى غرار هذه الحرب، خاضت سائر الشعوب المستَعْمَرَة معركة من أجل ماض وحاضر هيمنت عليه قوى خارجية سيطرت بداية على الأرض، ومن ثَمَّ أعادت كتابة التاريخ كيما تظهر في ذلك التاريخ بوصفها المالكين الحقيقيين لتلك الأرض. وشعرت جميع الدول المستقلة التي ظهرت إثر فك ارتباطها عن الامبراطوريات الكلاسيكية في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية، بضرورة أن تسرد تاريخها الخاص خالياً قدر المستطاع من الممالأة والتحريف اللذين أضفتهما عليه بريطانيا وفرنسا والبرتغال وهولندا.
ولكن قدر التاريخ الفلسطيني هو أن يكون تاريخاً محزناً، ليس لأنه لم يُظفر بالاستقلال فقط، بل لأنه لم يكن ثمّة إدراك جمعي لأهمية بناء تاريخ جمعي بوصفه جزءاً في محاولة نيل الاستقلال. فلكي يصبح أمة بالمعنى الرسمي للكلمة، ينبغي على الشعب أن يجعل من نفسه أكثر من مجرد مجموعة من القبائل أو المنظمات السياسية من الصنف الذي ابتدعه وعززه الفلسطينيون منذ حرب 1967. ومع وجود منافس قوي كالحركة الصهيونية، فقد كان للسعي وراء إعادة كتابة تاريخ فلسطين لاقتلاع أهل الأرض أثر مأساوي على المطلب الفلسطيني في حرية تقرير المصير. ومالم ندركه البتة هو قوة السرد التاريخي في حشد الناس حول هدف مشترك، ففي حالة إسرائيل، كانت فكرة السرد الأساسية أن ضالة الصهيونية المنشودة هي استرجاع شعب وإعادة تأسيسه وعودته وإعادة صلاته مع وطن أصلي. وكان من سجايا هرتزل ووايزمان تمكنهما من جر مفكرين مثل آينشتاين وبوبر ورأسماليين مثل اللورد روتشيلد وموسى مونتيفيور إلى بذل وقتهم وجهودهم في تأييد مخطط له أهميته البالغة وله تبريره التاريخي. ولم يحقق سردإعادة التأسيس والعودة بغيته بين اليهود وحدهم، بل أيضاً في أرجاء العالم الغربي لا بل حتى العالم الشرقي في بعض أجزائه). وبفعل قوة وجاذبية السرد والفكرة الصهيونيين اللذين اعتمدا على قراءات خصوصية للتوراة)، وبفعل عدم مقدرة الفلسطينيين الجمعية في إنتاج قصة سردية مقنعة لها بداية ووسط ونهايةوكنا على الدوام مشوشين، وكان هَمُّ قادتنا صون سلطتهم، وامتنع معظم مفكرونا عن إناطة أنفسهم كمجموعة بهدف مشترك، والحال أنه كثيراً ما غيّرنا أهدافنا)، ظل الفلسطينيون مشتتين وضحايا عاجزين سياساً أمام صهيونية لم تزل تستولي على الأرض والتاريخ.
أما كيف كان الاعتداء على التاريخ متقناً ومصادقاً عليه،وبالتالي الاعتداء على الذاكرة الشعبية السائدة لفلسطين، وكيف لفت بناء تاريخ اليهود من جديد الأنظار طوال سنوات ليتلائم مع غايات الصهيونية بوصفها حركة سياسية، فيتناوله بالتوضيح وعلى نحومدهش المؤرخ الاسكتلندي المتخصص في تاريخ الشرق الأوسط كيف وايتلام في كتابه اختلاق إسرائيل القديمة، وإسكات التاريخ الفلسطيني، ولكوني غير متخصص لا في تاريخ العالم القديم عموماً ولا في تاريخ فلسطين القديم خصوصاً، ليس بمقدوري أن أحكم على كل مسألة من المسائل التي يطرحها وايتلام، غير أني على مقدرة أن أحكم علىما يقوله عن الدراسات الحديثة في تاريخ إسرائيل القديم، وفي هذه النقطة أعجبت بمناقشته المتأنّية، ولكن برغم ذلك الجريئة جداً. وما يدرسه وايتلام هو بالمحصلة أمران: أولهما يتعلق بسياسات الذاكرة الجمعية، وثانيهما يتعلق بابتداع المؤرخين والباحثين الصهاينة صورة جغرافية عن إسرائيل القديمة مصاغة تحت وطأة الحركة الصهيونية الحديثة وحاجاتها الأيديولوجية(10) .
وكما اقترحت سابقاً، ليست الذاكرة الجمعية شيئاً خامداً سلبياً، بل مجال فعالية يتم في إطاره انتقاء أحداث الماضي وإعادة بنائها وصونها وتحويرها ومهرها بالدلالات السياسية. ففي كتابها الصادر في 1995 الجذور المستردة، الذاكرة الجمعية وصناعة الإرث القومي الإسرائيلي تبين المؤرخة الإسرائيلية ـ الأمريكية بيل زير بافل كيف أن قصّة المسّادة(13) ). لم تكن معروفة بين معظم اليهود قبل أواخر القرن التاسع عشر. وفيما بعد في عام 1862 ومع صدور الترجمة العبرية عن مصادر رومانية لقصة المسّادة في كتاب جوزيف فلافيس حروب اليهود وفي زمن قصير تحولت القصة من خلال إعادة بنائها على أربعة أمور ذات شأن؛ هي "نقطة تحول كبيرة في التاريخ اليهودي، ومكان للحجاج اليهود المعاصرين، وموقعاً أثرياً مشهوراً، ومجاز سياسي معاصر".(11) وعندما قام الجنرال ييغل يادن بأعمال التنقيب في المسّادة بعد 1948 كانت لهذه البعثة الأثرية سمتان متمّمتان؛ أولاهما، تنقيب أثري، وثانيهما،، "إنجاز رسالة قومية".(12) . وفي الوقت المناسب كان المكان الفعلي موقعاً لاحتفالات الجيش الإسرائيلي، وإحياء لذكرى بطولة اليهود، إضافة إلى أنه التزام بالمهارة العسكرية وتعهد حاضر ومستقبلي بها. وهكذا، أعيد عن عمد صياغة حادثة مبهمة مجهولة نسبياً في الماضي بوصفها واقعة بارزة في برنامج قومي لدولة حديثة؛ وأضحت المسّادة رمزاً فعالاً لسرد إسرائيل قومي عن الكفاح والبقاء.
ويقدم وايتلام وصفاً مشابهاً على نحو لافت عن الكيفية التي اُسْتبدل فيها تاريخ فلسطين القديمة بشكل تدريجي بصورة إسرائيل القديمة الملفّقة في غالب الأحيان، كياناً سياسياً لعب في الواقع دوراً صغيراً ليس إلاّ في منطقة فلسطين الجغرافية. ووفقّاً لوايتلام كانت فلسطين القديمة وطناً لشعوب وتواريخ متنوعة؛ فهي المكان عاش وازدهر فيه اليبوسيون والإسرائيليون والكنعانيون والمؤابيون والفلسطينيون وغيرهم. ولكن بداية وفي أواخر القرن التاسع عشر أُسْكت هذا التاريخ الأكثر غنىً وتعقيداً،، وأُبعد جانباً، كي يصبح تاريخ القبائل الإسرائيلية الغازية، التي قمعت السكان الأصليين وجردتهم من الملكية حيناً من الزمن، السرد الوحيد الجدير بالأخذ في عين الاعتبار. وأضحى انقراض سكان فلسطين الأهليين في أواخر العصر البرونزي سمة مقبولة ومن ثم دائمة شيئاً فشيئاً؛ سمة على طريقة أن تاريخ اليهود هو التاريخ المختار بالنسبة لباحثين مثل و.ف. أولبرايت؛ المؤرخ لتاريخ فلسطين القديمة مع بدايات القرن العشرين؛ مما يَسَّرَ إسكات تاريخ فلسطين الأصلي حيث حلَّ محله تاريخ الإسرائيليين الوافدين. وبلغ الأمر بأولبرايت لولعه باستعادة الأحداث الماضية أن يتغاضى عن تدمير سكان فلسطين القديمة الأصليين كَرَامةً لشعب أرفع مقاماً؛ إذ يقول: "فمن وجهة نظر فيلسوف تاريخ متجرد، غالباً مايبدو أنه من الضروري أن يتلاشى شعب واضح أنه من صنف أدنى منزلة [أي، الكنعانيين والفلسطينيين]، أمام شعب ذي إمكانات أرفع منزلة [الإسرائيليين] بما أنه ثمّة مرحلة لا يستطيع المزيج العرقي أن يتخطاه دون نكبة".(13) .
إن تصريحاً كهذا بتعبيره اللافت الذي لا لبس فيه عن توجهاته العنصرية من قبل باحث يدّعي التجرد، والذي حدث أنه أكثر الشخصيات نفوذاً في علم آثار التوراة الحديث، هو أمر مرعب إلى حد غريب. غير أنه يدل من جهة أخرى كيف أن الصهيونية المعاصرة، في تعطشها للتغلب على العوائق في طريقها، لدرجة أنها في استعادتها الأحداث الماضية تتغاضى عن تجريد الملكية لا بل الإبادة الجماعية، فرضت ضرباً من غائية مولعة باستعادة الأحداث الماضية. ويمضي وايتلام ليبين كيف أن باحثين كأولبرايت وغيره استمروا في بناء "دولة كبيرة وقوية وذات سيادة ومستقلة... [والتي] نُسبت إلى مؤسسها ديفيد"(14) . ويبين وايتلام كيف أن هذه الدولة هي بالمحصلة اختلاق صُمم ليترافق مع محاولة الصهيونية في القرن العشرين للسيطرة على أرض فلسطين؛ ومن هنا:"فإن الدراسة التوراتية، في بنائها دولة إسرائيلية قديمة، متورطة في النزاع المعاصر على الأرض"(15) . ويحاول وايتلام أن يبرهن أن دولة من هذا القبيل كانت أقل أهمية بكثير مما يقوله المدافعون عنها في الوقت الحاضر في أنّ إسرائيل القديمة المختلفة" قد أسكتت التاريخ الفلسطيني وحجبت المطالب البديلة بالماضي."(16) . ومن خلال اختلاق مملكة إسرائيلية قديمة حلت محل التاريخ الفلسطيني الكنعاني، حال الباحثون المعاصرون تقريباً دون زعم الفلسطينيين الحاليين أن مطالبهم بفلسطين لها أيّما شرعية تاريخية لها جذورها. وفي الواقع، واصل مثل هؤلاء الباحثين المناصرين للصهيونية التأكيد على أن إسرائيل القديمة نوعياً عن باقي الحكومات في فلسطين على اختلاف أنواعها، وشأنهم شأن ما ادّعاه الصهاينة الحاليين بأن قدومهم إلى فلسطين حوّل أرضاً صحراء "خالية" إلى حديقة. والفكرة في كلتا الحالتين القديمة والمعاصرة هي نفسها وبطبيعة الحال تنكر بعنف هوية المكان المتعدد الثقافات الأكثر تعقيداً.
ووايتلام على حق تماماً في أن ينقد كتابي عن الصراع المعاصر على فلسطين. إذ لم يول الكتاب اهتماماً بخطاب الدراسات التوراتية. ويقول وايتلام أن هذا الخطاب كان في الواقع جزءاً من الاستشراق الذي صوّر به الأوربيون وجسّدوا الشرق الخالد حسبما يحلو لهم، وليس كما هو عليه، أو كما يعتقد السكان الأصليون، وهكذا، كان من شأن الأيديولوجية الصهيونية واهتمام أوربا بجذور الماضي الخاص بها أن تعزّز الدراسات التوراتية التي خلقت شعباً إسرائيلياً ثم عزل عن محيطه ويُفْترض فيه حمل الحضارة والتقدم إلى المنطقة، غير أن مايصل إليه وايتلام هو أن "هذا الخطاب أقصى السواد الأعظم من سكان المنطقة". إنه خطاب قوة "جرّد الفلسطينيين من أرض ومن ماض".(17) .
إن الموضوع الذي يتناوله وايتلام بالدراسة هو التاريخ القديم وكيف أن حركة سياسية هادفة استطاعت أن تختلق ماضياً مُسخّراً أصبح مظهراً حاسماً للذاكرة الإسرائيلية الجمعية المعاصرة. وحينما صرح رئيس بلدية القدس منذ عدة سنوات خَلَتْ أن المدينة تمثل 3000 سنة من الهيمنة الإسرائيلية المتواصلة من غير انقطاع، فقد كان يعبئ قصة مختلقة بدافع من أغراض سياسية لدولة حديثة لم تزل تحاول أن تجرد الفلسطينيين السكان الأصليين الذين يُعدّون الآن على أنهم يكادوا أن يكونوا أجانب محتملين.
وبمحاذاة فكرة إسرائيل كيف تم صِيّاغّتها في التحرير والاستقلال من حيث إعادة بسط السيادة اليهودية سرى على قدم المساواة باعث أساسي، بجعل الصحراء تزهر، حيث يكون الاستنتاج إما أن فلسطين كانت خاليةمثل الشعار اليهودي "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض")، أو أنها أُهْمِلَتْ من قبل بدو أو فلاحين عاشوا فيها من دون سمة تميزهم. وكانت الفكرة الرئيسية لا أن تنكر على الفلسطينيين حضوراً تاريخياً بوصفهم شعباً ككل فحسب، بل أن تدّل ضمناً أنه ليست لديهم مقومات شعب له استمراريته. ومع نهاية عام 1984 صدر كتاب لكاتبة مجهولة نسبياً تُدعى جان بيترز عن دار نشر تجارية بارزة هاربر أندرو)، تزعم مبرهنة أن الفلسطينيين كشعب ماهو إلاّ تخييل أيديولوجي دعائي؛ وحاز كتابها منذ القدم جميع ضروب الجوائز والأوسمة من شخصيات بارزة مثل شاوور بيلو وبربارا تاتشمان اللذين أبدا إعجابهما بـ "نجاح" بيترز في إثبات أن الفلسطينيين كانوا "حكاية من حكايات الجن". إلاّ أن الكتاب فقد ببطء مصداقيته برغم طبعاته الثماني أو التسع، حيث قام نقاد على تنوعهم، وبشكل أساسي نورمان فنكلشتاين، بالكشف منهجياً أن الكتاب خليط من الأكاذيب والتحريفات والتلفيق، يعادل دجلاً مهولاً، ويدل الرواج القصير الأمد للكتاب اختفى عملياً منذ ذلك الوقت ولم يعد يورد ذكره) كيف أن الذاكرة الصهيونية نجحت بشكل ساحق في تجريد فلسطين من سكانها، وتاريخها، محوّلة مشهديتها بدلاً عن ذلك إلى فضاء خالٍ طافَ في منتصف الأربعينيات، كما تزعم بيترز، باللاجئين العرب من الدول المجاورة حيث جذبهم المكان أملاً في الرخاء في ظل المستوطنين اليهود. وأتذكر الغيظ الذي استبد بي وأنا أقر كتاباً يملك من الوقاحة أن يخبرني أن بيتي ومولدي في القدس سنة 1935 قبل ما افترضته بيترز هذه بطوفان العرب اللاجئين)، وأن الوجود الواقعي لوالديّ والأعمام والعمات والأجداد وعائلتي الممتدة بكاملها في فلسطين ليس له وجود في الواقع، ولم يعيشوا هناك أباً عن جَدّ وبالتالي ليس لهم حق شرعي في المشهدية الواضحة لبساتين البرتقال والزيتون التي أتذكرها من ومضات الوعي الباكرة. وأتذكر أيضاً أنني في 1986، نشرت عن قصد كتاب صور فوتوغرافية لجين مور خلف السماء الأخيرة، تعيش فلسطين، وكتبت له نصاً مسهباً، وأتمنى أن تأثيره مع ترابطه بالصور سيبدد أسطورة مشهدية خالية، وشعب مجهول غير ذي وجود.(18) .
منذ ذلك الوقت والقصة الإسرائيلية، مدعومة من دون وعي وبوضوح بين أحضان ذكريات أهوال لا سامية جرت، مما يدعو للتهكم، في مشهدية متباينة برمتها، تحول دون التاريخ الفلسطيني في أن ينمو سواء في فلسطين أو خارجها بفعل التهجير الإسرائيلي الجغرافي والطبيعي المادي للشعب. وكان من شأن الإحساس المبرِّر بـ"لن يتكرر أبداً"، التي أضحت كلمة سرّ في الوعي اليهودي كما كشفت، مثلاً، محاكمة أيشمان(14) ) المروِّجة لها، بشكل شامل، عن مدى الرعب من الهولوكوست، أن تنحّي جانباً الإحساس الذي تعمق بين جمهور الفلسطينيين بضرورة إصرارهم على حقهم. وثمة أمر بسبب من مأساويته يدعو للتهكم يتعلق بالطريقة التي شدّدت فيها حرب 1967 التأكيد على هوية إسرائيلية لها الغلبة من جانب، ومن جانب آخر، شحذت الحاجة في مابين الفلسطينيين إلى مقاومة منظمة وإلى تأكيد مضاد. وعندئذ لم يكن إلاّ أن احتلت إسرائيل سائر أراضي فلسطين وحصلت على سكان يقدرون بمليوني فرد من الشعب الذي حكمته بوصفها قوة عسكرية 20% من المواطنين الإسرائيليين هم فلسطينيون)، وانبثقت ذكريات مُنقّبَة عنها حديثاً في الماضي اليهودي، اليهود بوصفهم جنوداً ومحاربين ومقاتلين أشدّاء وحلّت محل صور اليهودي بوصفه مثقفاً وحكيماً ومنعزلاً بعض الشيء، ويؤرخ بول بريتر بتألق التغيّر في الأَيْقَنة في كتابه اليهود القساة.(19) .
ومع قيام منظمة التحرير الفلسطينية، بداية في الأردن، ومن ثم بعد أيلول في بيروت، ظهر اهتمام فلسطيني جديداً بالماضي، كما تجسد في نشاطات متفاوتة كالأبحاث التاريخية المنظمة والآثار الأدبية كالشعر والقصة ارتكزت على إحساس بماض مستعاد، طُمِسَ سابقاً ولكن يُطالب باسترداده الآن في قصائد الزيات ودرويش وحسين والقاسم وفي قصص كنفاني وجبرا هذا فضلاً عن الرسم والنحت والكتابات التاريخية كمجموعة أبو لاد Abu Lughod تبديل فلسطين. وأعمال حديثة كمؤلفات وليد خالدي قبل شتاتهم، وكل ماتبقى ودراسة رشيد خالدي الهوية الفلسطينية ودراسة صبري جريس العرب في إسرائيل ودراسة بيان الحوت عن النخبة الفلسطينية ودراسة إيليا زريق الفلسطينيون في إسرائيل وغيرهم، وبفضل هؤلاء الباحثين الفلسطينيين ترسخ تدريجياً خطٌ من التجذّر السلالي بين أحداث 1948، وقبلها وبعد النكبة منحت مادة لذاكرة قومية لحياة فلسطينية جمعية استمرت برغم النهب والتخريب والتجريد المادي والاحتلال العسكري، وإنكار إسرائيل الرسمي(20) . ومع منتصف الثمانينات بدأ يظهر اتجاه جديد في دراسات التاريخ النقدي الإسرائيلي تتعلق بالذكريات الرسمية المقدسة. ويعود أصل هذه الدراسات، في رأيي، وإلى حد كبير إلى الصدام المتفاقم ولكن الشديد بين كلا الطرفين الفلسطينيين والإسرائيليين في المناطق المحتلة. لنتذكر أنه مع وصول الليكود ذا الاتجاه اليميني إلى السلطة في 1977 أعيد تسمية هذه المناطق بـ"يهوذا والسامرة"؛ فقد تم تحويلها اسمياً من مناطق "فلسطينية" إلى مناطق و مستوطنات "يهودية" التي لم يكن غرضها منذ البداية أقل من تحويل مشهدية المكان بإدخال قسري لمساكن شعبية ذات نمط أوربي من دون سابقة ولا جذور في الجغرافيا المحلية، وانتشرت تدريجياً في جميع أرجاء المناطق الفلسطينية متحدياً بضراوة البيئة الطبيعية والإنسانية مع تمييز عنصري جلف تحت شعار اليهود فقط. وفي رأيي أن هذه المستوطنات التي اندرجت في دائرة ضخمة من المشاريع السكنية شبيه القلاع حول مدينة القدس، كانت تهدف أن تضرب مثلاً عن القوة الإسرائيلية؛ إنها إضافات إلى مشهدية المكان الوديعة تدل على الاعتداء وليس توفير أسباب الراحة والتثاقف بين الشعوب.
وقد دشن الراحل سيما فلافن الاتجاه الجديد في التاريخ النقدي الإسرائيلي، ولكن استمر هذا الاتجاه في دراسات علمية مثيرة للجدل وأعمال بيني موريس وأيفي شالم وتوم سغيف وإيلين باب وبيني بيت حلاحمي وأعتقد أن معظم هذه الأعمال غذّتها الانتفاضة التي قبرت السكوت الفلسطيني وتغيّبه. ولأول مرة كشف نقد منظوم ذات رواية رسمية وبشكل مبرمج عن الدور الحاسم الذي لعبه الاختلاق في ذاكرة جمعية تحجّرت في تمثيل متعنّت ومقدس ومجرّد من صفاته الإنسانية إذا نظرنا إلى الويلات التي جرتها على الفلسطينيين. وبعيداً عن أن يكون الفلسطينيون قد غادروا أو هربوا لأن قادتهم أخبروهم بذلك وهذه هي الحجة الشائعة عن سبب المشهدية الخالية من السكان بين عشية وضحاها في 1948)، بيّن هؤلاء المؤرخون أنه طبقاً للسجلات العسكرية الصهيونية كان ثمة خطة وحشية لتشتيت وإبعاد السكان الأصليين، وخطفهم بطرق خفية كيلا يحدثوا جلبة بحضورهم غير اليهودي، وبعيداً عن أن تكون القوات الصهيونية قوات صغيرة وأن السكان يفوقونهم عدداً ويشكلون تهديداً فعلياً، تبين أن هذه القوات كانت أكبر عدداً من جميع الجيوش العربية مجتمعة، وأفضل تسلحاً، ولديهم مشتركة من الأهداف المفقودة تماماً بين خصومهم. أما من جهة الفلسطينيين، فقد كانوا من دون زعماء بشكل مؤثّر، وعُزّل، وفي أمكنة كالقدس؛ التي أتذكرها بحيوية، إذْ كنت في الثانية عشر آنذاك، فقد كانت تحت رحمة الهاغاناة(15) ) والأرغن(16) ) الذين كان هدفهم المطرد أن تُخْلي المكان من الفلسطينيين بشكل واضح لا لبس فيه، وهذا ما حدث لنا حقاً. وبعيداً عن أن تكون هناك سياسة "حرب نظيفة"، عُدّة ساسة إسرائيل العسكرية، اُرْتُكِبَت سلسلة من المذابح والأعمال الوحشية لإكراه الفلسطينيين المحرومين تماماً بالإرهاب على الهروب و/أو عدم المقاومة.
ومنذ عهد قريب زار ثانية المؤرخ الاجتماعي الإسرائيلي زيف سترنهل سجلات الدولة الرسمية ليبرهن بقوة لافتة للنظر أن ما تم تقديمه للعالم بوصفه ديمقراطية اشتراكية، لم تكن في الواقع كذلك، بل كانت مايسميه هو نفسه باشتراكية قومية خُصِّصت بادئ ذي بدء لتخلق جماعة تربط بينها روابط دم، ولتسترد الأرض عن طريق الاحتلال، ولكي تقود الشخصية اليهودية إلى حماسة صليبية مثالية.(21) فقد كانت إسرائيل في الواقع معادية للاشتراكية بشكل عميق، مفضلة ذلك على حقوق الأفراد ومساواة المواطنة، وخلقت ثيوقراطية ذات حدود صارمة عمّا يمكن أن يتوقعه الفرد من الدولة، فالمزارع الجماعية اليهودية مبشرة ردحاً من الزمن بتجربة اشتراكية فريدة في المساواتية و المشاركة المبتكرة لم تكن، يقول سِترنهل، سوى حقائق محرّفة، فقد كانت محدودة إلى حد كبير ولها حدودها الفاصلة في شروط الانتساب إليها إذ لم تكن مفتوحة للعرب). وإسرائيل اليوم هي الدولة الوحيدة في العالم التي لا تُعَدّ دولة مواطنيها فحسب، بل دولة جميع اليهود حيثما كانوا. وليس أقلّه أنها لا تملك حتى الوقت الحاضر حدوداً دولية، ولا تملك أيضاً دستوراً، بل مجموعة من القوانين الأساسية، ومنها قانون العودة الذي يخوّل أي يهودي أينما كان الحق بمواطنة إسرائيلية بشكل مباشر، بينما الفلسطينيون اقتلعت أسرهم في 1948، ممنوع عنهم تماماً مثل هذا الحق. و92% من الأرض محجوزة تحت رعاية وكالة للشعب اليهودي، هذا يعني أن الأفراد من غير اليهود، وبخاصة مواطني إسرائيل الفلسطينيين الذين يشكلون زهاء 20% من مجموع سكان الدولة، يُمْنع عليهم شراء الأراضي وإيجارها أو بيعها، ويستطيع المرء أن يتصور الاحتجاجات العنيفة في الولايات المتحدة لو أن الأرض كانت مرخّصة فقط للمسيحيين من العرق الأبيض، مثلاً، وممنوعة على اليهود أو السكان من غير العرق الأبيض.
إذن، فقد كان النمط السائد في الفكر عن جغرافية فلسطين؛ التي أقام فيها أغلبية كاسحة من غير اليهود مدة ألف وخمسمائة سنة، هي فكرة العودة، والعودة إلى إسرائيل بالنسبة لليهود الذين لم يروا المكان في حياتهم كانت عودة إلى صهيون ودولة سابقة نُفي عنها اليهود. وتلاحظ كارول باردنشتاين في دراسة دقيقة الأسلوب الذي شق فيه صور التين الشوكي والبرتقال والأشجار والعودة طريقها إلى خطاب ذاكرة اليهود والفلسطينيين على حد سواء. غير أن الخطاب اليهودي يُقْصي من مشهدية المكان حضور الفلسطينيين السابق:
سنحت لي الفرصة أن أزور مواقع عدة قرى فلسطينية سابقاً التي شُكّلت بأشكال متنوعة مجدداً من خلال زراعة الأشجار ومشاريع المؤسسة القومية اليهودية بأساليب تعزّز النسيان "الجمعي" إن لم يكن الانتقائي، فإذا زار المرء موقع قرية قبسيا المدمرة في الجليل، على سبيل المثال، ولدى التمعن الدقيق في الأشجار ومشهدية المكان نفسه سيجد أنها تقدم سردين متباينين متصارعين يدوران حول الموقع نفسه. فعلى المرء أن يعتمد قراءات مشهدية المكان، إذْ لم يبق إلاّ القليل من الشواهد الأخرى. وما يتبيَّنه مباشرة الزائر لأول مرّة الأشجار التي زرعتها المؤسسة القومية اليهودية في الموقع، والتوافقية المميزة بين أشجار الصنوبر والأشجار الأخرى التي نمت طوال أربعة عقود بأسلوب يجعلها تبدو وكأنه من الجائز أنها دوماً تواجدت هناك.(22) .
سأدون في خاتمة موجزة ما الذي يمكن أن يفعله التفاعل بين الذاكرة والمكان والاختلاق فيما لو لم يستخدم للإقصاء، أعني، فيما لو استخدم للتحرير والتواجد بين المجتمعات التي يتطلب محاذاتها لبعضها شكلاً محتملاً من التصالح الثابت، وثانية سأستخدم قضية فلسطين بوصفها مثلاً ملموساً. فقد انْضَفَر الآن الإسرائيليون والفلسطينيون من خلال التاريخ والجغرافيا والواقع السياسي الأمر الذي يبدو لي أنه من الحماقة التامة أن يُحاوَل تخطيط مستقبل أحدهما دون الآخر. وتكمن المشكلة في عملية أوسلو التي ترعاها أمريكا أنها افترضت فكرة التقسيم والفصل، في حين أن المرء حينما نظر في مناطق فلسطين التاريخية، سيجد أن اليهود والفلسطينيين يعيشون سوياً. وجعلت فكرة الفصل بين هاتين الجماعتين غير المتكافئتين الواحدة ضحية الأخرى. فمعظم الفلسطينيين غير مبالين بقصص المعاناة اليهودية وكثيراً ما يصيبهم الغضب بسببها إذْ يبدو لهم أن اللا سامية بعيدة وغير ذات صلة بالموضوع بوصفها هدفاً للقوة العسكرية الإسرائيلية في حين أُخذت أرضهم وتزيل الجرافات بيوتهم. وعلى العكس، يرفض معظم الإسرائيليين أن يقرّوا بأن إسرائيل قد شُيِّدَت على أنقاض المجتمع الفلسطيني، وأن نكبة 1948 لم تزل مستمرة لغاية الآن بالنسبة لهم. غير أنه ليس ثمة تصالح محتمل؛ وليس ثمة حل وارد إلاّ إذا واجهت كل جماعة تجربتها في ضوء تجربة الآخر. ويبدو لي أنه من الجوهري أنْ ليس ثمة أمل في السلام، إلاّ إذا اعترفت الجماعة الأقوى؛ اليهود الإسرائيليون بالذاكرة الأكثر قوة بالنسبة للفلسطينيين، أعني ، تجريد شعب كامل من الملكية. كما أنه على الطرف الأضعف؛ الفلسطينيين، أن يواجهوا بجرأة أيضاً واقعة أن اليهود الإسرائيليين يعتبرون أنفسهم الناجين من الهولوكوست، على الرغم من أنّه لا يمكن أن نجيز لتلك المأساة أن تبرر تجريد الفلسطينيين من الملكية. ولعلّه من الصعوبة بمكان توقع حدوث هذه الإقرارات والاعترافات في جو متأجج هذه الأيام بالاحتلال العسكري والظلم، ولكن، كما حاولت أن أبرهن في مكان آخر، عند نقطة مايجب عليهم فعل ذلك.
----------
الإختلاق، الذاكرة والمكان(1) | إدوارد سعيد ترجمة : رشاد عبد القادرعن مجلة Critical Inquiry شتاء 2000.
العنوان الأصلي:
Invention. Memory . and Place
Edward W. Said.
(1) ) هذه المقالة مأخوذة عن المجلة الفصلية Critical Inquiry شتاء 2000.
تتم الإشارة هنا إلى حواشي المترجم بالحروف اللاتينية في أسفل الصفحة، أما المراجع التي يشير إليها المؤلف فهي في نهاية المقالة.
(2) ) ماري فرانك: آناليس: 1929 ـ 1945)، فتاة يهودية، تحولت يوميات أسرتها طيلة سننتين في مخبأ أثناء الاحتلال النازي لهولندة إلى أحد كلاسيكيات أدب الحرب. ويقال أن بعض أصدقاء الأسرة وجدوا هذه اليوميات التي كتبتها آناليس في المخبأ. وسلّموها إلى والدها الذي نشرها بدوره عام 1947، تحت عنوان "يوميات فتاة شابة"، وترجمت هذه اليوميات إلى أكثر من خمسين لغة.
(3) ) بابون، موريس: يعتبر أحد أكثر الضباط مرتبة في حكومة فيشي إبان الاحتلال الألماني لفرنسا. وبعد أن بلغ 87 عاماً، تمت محاكمته في مدينة بوردو بتهمة ترحيل 1500، وفي مصادر أخرى 2000، يهودي إلى معسكرات الموت خلال الحرب العالمية الثانية.
(4) ) اسم الطائرة التي ألقت بالقنبلة الذرية على هيروشيما.
(5) ) ريفير، بول 1735 - 1818)، أحد الأبطال الشعبيين للثورة الأمريكية، خلدته قصة امتطائه صهوة جواده ليعود محذراً قاطني منطقة بوسطن بقدوم الإنكليز. علمه والده مهنة صياغة الفضة، حيث نقش نسخته عن مذبحة بوسطن على صفائح النحاس.
(6) ) حفلة رسمية يقدم فيه الرعايا عهد الولاء لأمير هندي.
(7) ) ماريان رمز الجمهورية الفرنسية كما هو الحال مع العم سام في أمريكا.
(8) ) أحد معسكرات الموت النازية في بولندة.
(9) ) برنارد دوكليرفو 1090-1153)، نسبة إلى مقاطعة كليرفو: كاهن فرنسي. في مدينة فيزلي بدأ الكاهن برنار بناء على أوامر البابا التبشير بالحملة الصليبية الثانية. وكان له تأثير بالغ حيث انضم لويس السابع ملك فرنسا إلى الحملة الصليبية.
(10) ) مكيفيتش، آدم 1798-1855): شاعر وطني بولندي، وأحدثت قصائده الرومانسية ثورة في أدب بولندة.
(11) ) سيبيليوس، جان 1865 -1957)، مؤلف موسيقي فنلندي، تعكس قصائده السمفونية مقارباته الرومانسية ذات العاطفة القومية القوية، أما قصيدته النغمية فينلانديا 1899 ـ وعدّل فيها في 1900)، فقد حظّر تداولها الحكام الروس في فنلندة لأنها أثارت حماساً وطنياً بين الشعب.
(12) ) كوبلاند آيرن 1900-1990): "له حضور طاغ في موسيقى أمريكا القرن العشرين، تحول في الثلاثينات إلى أسلوب أكثر بساطة وميلودية كثيراً ما اعتمد فيه على عناصر الموسيقى الشعبية الأمريكية، ويستخدم في ربيع آبلاشيا 1944 وحازت على جائزة بوليتزار في1945)، ثيمات وإيقاعات سكان البلادالأصليين.
(13) ) المسّادة: قلعة قديمة تقع على قمة جبل جنوب شرق إسرائيل، وهي آخر موقع احتله الروم بعد سقوط القدس عام 70 ق.م. وقام عالم الآثار الإسرائيلي ييغل يادن بعملية تنقيب شاملة في الموقع في 1955-1965 ساعده آلاف المتطوعين من أرجاء العالم. وهي تشكل في الوقت الحاضر أكثر المواقع الأثرية في إسرائيل جذباً للسياح.
(14) ) أيشمان، كارل أدولف 1906-1962): أحد مجرمي الحرب الألمان شنقته الدولة الإسرائيلية لدوره في إبادة اليهود أثناء الحرب العالمية الثانية.
(15) ) الهاغاناه "الدفاع" بالعبرية) منظمة صهيونية عسكرية ظهرت في فلسطين منذ 1920.
(16) ) الأرغن Irgun Zavi Leumi "المنظمة العسكرية القومية" بالعبرية)، الحركة الصهيونية السرية في فلسطين تأسست 1931، تحت اسم Etzel
خاص المسيرة الالكتروني
إدوارد وديع سعيد (1 نوفمبر 1935 القدس - 25 سبتمبر 2003) مُنظر أدبي فلسطيني وحامل للجنسية الأمريكية. كان أستاذا جامعيا للغة الإنكليزية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة الأمريكية ومن الشخصيات المؤسسة لدراسات ما بعد الكولونيالية. كما كان مدافع عن حقوق الإنسان للشعب الفلسطيني، وقد وصفه روبرت فيسك بأنه أكثر صوت فعال في الدفاع عن القضية الفلسطينية.
كان إدوارد سعيد من الشخصيات المؤثرة في النقد الحضاري والأدب وقد نال شهرة واسعة خصوصاً في كتابه الاستشراق المنشور سنة 1978. قدم كتابه أفكار المؤثرة عن دراسات الاستشراق الغربية المتخصصة في دراسة ثقافة الشرقيين.
إدوارد وديع سعيد (1 نوفمبر 1935 القدس - 25 سبتمبر 2003) مُنظر أدبي فلسطيني وحامل للجنسية الأمريكية. كان أستاذا جامعيا للغة الإنكليزية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة الأمريكية ومن الشخصيات المؤسسة لدراسات ما بعد الكولونيالية. كما كان مدافع عن حقوق الإنسان للشعب الفلسطيني، وقد وصفه روبرت فيسك بأنه أكثر صوت فعال في الدفاع عن القضية الفلسطينية.
كان إدوارد سعيد من الشخصيات المؤثرة في النقد الحضاري والأدب وقد نال شهرة واسعة خصوصاً في كتابه الاستشراق المنشور سنة 1978. قدم كتابه أفكار المؤثرة عن دراسات الاستشراق الغربية المتخصصة في دراسة ثقافة الشرقيين.