I
تنبؤات من جهة الواقع
للسكان في الضفة اليمنى من نهر هذا العالم حقوقٌ على الجميع أن يدافعوا عنها. في ضفته اليسرى لا حقوق للسكان، وعلى الجميع أن يرضوا بذلك. أحيانًا يكون العكس هو الصحيح.
سياسة يقودها شرطيٌّ كونيٌّ، باسم السلام والحرية وحقوق الإنسان.
عبثٌ ساحرٌ يحوِّل العالم إلى فضاء ليس فيه غير أنابيب تنفث دخان الحروب.
عبثٌ يُسكَب في رؤوس البشر: يخيَّل إليهم أنَّ الدجاجة تبيض فيلاً، وأنَّ الفيلَ يصدح كالطير.
*
ثمر ربيعيٌّ يتساقط غبارًا بين خطواتي ولا أرى نجمة تقلُّني لكي ألحق بفرس الوقت.
*
ثمة حروف تكتب خطأً. وها هي بسلطة الخطأ تمحوني.
*
يقرأ: يتبخَّر. يكتب: لا شيء.
*
جسمٌ على حافة الكلمة. الكلمة مسمارٌ حديدٌ في فرنٍ / تقدر بيضة
الدجاجة أن تتحوَّل فيه إلى جناحٍ ينتمي إلى أجنحةٍ تنتمي إلى طيور
ودواجن وحيوانات أخرى.
*
حاسوبٌ يتنقَّل بين أصابع الأفق. كل إصبعٍ إشاعة.
*
رئة الفجر مليئةٌ بهواء القتل. الهواء فاتحٌ ذراعيه لاستقبال الغبار.
*
في قلب اللغة جبرٌ – برجٌ من الحروف الإسمنتية يحتلُّ الساحات
ويخطط لغزو الفضاء.
*
لا كتابة في علم المال إلا إذا كان حبرها مالاً.
*
حجرٌ يمكن باسمه أن تتحوَّل الحشرة إلى بقرةٍ، والبقرة إلى شجرة.
وكلَّما شاخ شبَّ.
*
كلمات اللغة العربية اليوم،
تشكو علم المعنى.
علم المعنى، اليوم،
يشكو كلمات اللغة العربية.
*
سرٌّ يجعل سمُّ الأمس ترياق اليوم:
هل تغيَّر المنظر أم تغيَّر الناظر؟ أم العلَّة في النظر؟
*
لم يعد فعل القتل يحتاج إلى غاية خارقة، عليا. صار هو
الغاية. فالمروءة اليوم هي أن تقتل لا أن تعفو.
*
ماذا جرى لقرنٍ من الكلام حول حرية الفكر وحرية الرأي
وكيف صارت الكلمة رصاصة؟
ما أسرع ما تتغيَّر الخرائط والموازين، ما أسرع ما تنهار قلاع
الكلام!
*
الفرق بين الفيل والبعوضة في ثقافة هذا الواقع، هو أنَّ
البعوضة أكثر ضخامة من الفيل لأنَّ الحروف التي تتكوَّن منها
هي الأكثر عددًا.
الغراب في هذه الثقافة أبيض، والحوت غزالٌ،
والمال هو وحده، المآل.
ضع شفتيك خلف أذنيك إن شئت أن تدخل في معجم هذه الثقافة.
*
استيقظت الشمس، كما كان منتَظَرًا، غير أنها لم تستطع أن تفعل
شيئًا ضدَّ الضباب الذي كان يملأ الفضاء.
*
II
تنبؤات تجيء من جهة الحياة
من ابتكر الرقص؟
من أسَّس للخطوة الراقصة الأولى؟
أكيدٌ أنه كان عاشقًا.
وانظروا: هاهم عشَّاقٌ يرقصون،
كأنهم يتطايرون في ساحة من الأجنحة.
*
لم يعد الإنسان موجودًا إلا في كلمة ماتت، أو في كيسٍ يُرمى
من النافذة.
يا لهذا العار، أزرقَ محفورًا على عنق الأرض. أهو تاريخٌ آخر
لسماء أخرى؟
*
أهكذا يريدك الغرب أيها العربي:
قنديلاً منطفئًا،
يتدلى من عنق تاريخ ينطفىء؟
*
الموت يتزلَّج هانئًا على سطوح الأشياء. ثلجٌ في الروح، وثلجٌ هي المادة. ولا نارَ إلا في رفض الانتماء إلى هذا العصر الذي يفترس نجومه.
*
ثقافةٌ بثورٌ تحت البشرة. عثُّ الأصول ينخر غابة الحياة. لا تُطاقُ هذه الأبواق التي تملأ أفواه الملائكة. لا أريد أيَّة إيماءةٍ أو أيَّةَ إشارةٍ لكي ألتحق بأيَّة قافلة. ثمَّة زاويةٌ في آخر طريق في آخر تخمٍ في آخرِ إقليم. لن يفهم القاعدون ما أقول. حشد نساءٍ يتقنَّعن بأطباقٍ سوداء. وكانت النجوم تفرغ فوق أجسامهنَّ أمعاء الليل.
*
تلزمني مغارةٌ أقرأ فيها مثال أفلاطون في ظلِّ النِّفّري. تلزمني تنبؤاتٌ تعرف كيف تثقب جدران الرَّماد، لكي ترسم تخوم زمن آخر.
كلا، أيها الشاعر، لا تتردد في أن تقذف بكلماتك في جوف الريح تيمُّنًا بالتعب والخطأ. الريح هي أيضًا تخطىء وتتعب، وإلا كيف نفسِّر احتضانها للرماد؟
*
تشهق الرئة بالشهادة، فيما تخضع المسامير لثقوب فتحتها هي نفسها: تعليقٌ أخير تكتبه جمرةٌ أخيرة.
*
لم يعد بيننا جنيَّات يعلِّمن شهوات المادَّة. وها هو القمر يترنَّح مكسورًا على خشبة الرغبة.
*
الموت آخر مقصٍّ للورق الذي نرتجله لنقصَّ عليه أحلامنا.
*
عصرٌ عربيٌّ يزدهي بغباره.
*
كيف تكون حلمًا غامضًا في عين واضحة؟ كيف تكون إنسيًّا في صورة وحشٍ يخرج من غابةٍ غامضة؟
*
حياةٌ تمارس غيابها.
يا للخير الذي لا يتضمَّن غير الشرِّ.
*
كلمات تحلُّ محلَّ الأشياء. تصبح هي نفسها الأشياء.
*
ربما لم يعد ثمَّة مكان لريحٍ عربية إلا إذا هبَّت من الغرب. وها هي العروبة: جسمٌ يكشط جلده ويمدُّه فراشًا للهول.
كأن الأوضاع العربية، بيمينها ويسارها، لم تعد إلا ممرَّات آمنة لسفن القراصنة الذين يمخرون في دماء العرب.
*** *** ***
الحياة، الخميس 17 مايو 2012
علي أحمد سعيد إسبر المعروف باسمه المستعار أدونيس شاعر سوري ولد عام 1930 بقرية قصابين التابعة لمدينة جبلة في سوريا. تبنى اسم أدونيس (تيمناً بأسطورة أدونيس الفينيقية) منذ العام 1948. متزوج من الأديبة خالدة سعيد ولهما ابنتان: أرواد ونينار. يعتبر أدونيس أحد ألمع رواد القصيدة الحديثة و قصيدة النثر العربية. درّس في الجامعة اللبنانية, ونال درجة الدكتوراة في الأدب عام 1973 من جامعة القديس يوسف, وأثارت أطروحته الثابت والمتحول سجالاً طويلاً. بدءاً من عام 1955, تكررت دعوته كأستاذ زائر إلى جامعات ومراكز للبحث في فرنسا و سويسرا و الولايات المتحدة و ألمانيا. تلقى عدداً من الجوائز العالمية وألقاب التكريم وتُرجمت أعماله إلى ثلاث عشرة لغة. حصل سنة 1986 على الجائزة الكبرى ببروكسل ثم جائزة الإكليل الذهبي للشعر في جمهورية مقدونيا تشرين الأول 1997. رشح عدة مرات لنيل جائزة نوبل للأدب ولكنه لم يحصل عليها حتى الآن.
علي أحمد سعيد إسبر المعروف باسمه المستعار أدونيس شاعر سوري ولد عام 1930 بقرية قصابين التابعة لمدينة جبلة في سوريا. تبنى اسم أدونيس (تيمناً بأسطورة أدونيس الفينيقية) منذ العام 1948. متزوج من الأديبة خالدة سعيد ولهما ابنتان: أرواد ونينار. يعتبر أدونيس أحد ألمع رواد القصيدة الحديثة و قصيدة النثر العربية. درّس في الجامعة اللبنانية, ونال درجة الدكتوراة في الأدب عام 1973 من جامعة القديس يوسف, وأثارت أطروحته الثابت والمتحول سجالاً طويلاً. بدءاً من عام 1955, تكررت دعوته كأستاذ زائر إلى جامعات ومراكز للبحث في فرنسا و سويسرا و الولايات المتحدة و ألمانيا. تلقى عدداً من الجوائز العالمية وألقاب التكريم وتُرجمت أعماله إلى ثلاث عشرة لغة. حصل سنة 1986 على الجائزة الكبرى ببروكسل ثم جائزة الإكليل الذهبي للشعر في جمهورية مقدونيا تشرين الأول 1997. رشح عدة مرات لنيل جائزة نوبل للأدب ولكنه لم يحصل عليها حتى الآن.