لم يتيسَّر لكل إنسان أن يستحم في حشد من الناس: إن التمتع بالزحام فنٌّ؛ ولا يستطيع القيام بعربدة حيوية، على نفقة الجنس البشري، سوى هذا الذي نفخت جنّية فيه، وهو في مهده، طعمَ التنكّر والقناع، كراهية البيت وحب السفر.
حَشدٌ، وَحْدةٌ: مفردتان متعادلتان وقابلتان للتحوّل بالنسبة إلى الشعراء النشطين والغزيرين. هذا الذي لا يعرف كيف يجعل وَحْدته مكتظة، لا يعرف أيضاً أن يكون وحيداً وسط زحامٍ منهمكٍ في أشغاله.
الشاعر يتمتع بهذا الامتياز الذي لا نظير له، في أن يكون كما يشاء هو نفسه والآخر. مثل هذه النفوس التائهة التي تبحث عن جسد، يدخل، متى يشاء، شخصية أي كائن آخر. بالنسبة إليه وحده، كلُّ شيء فارغٌ؛ وإذا بدت أماكن مغلقة أمامه، فلأنها لا تستحق في نظره أن تُزار.
يستمدُّ المتنزّهُ المتأمل والمنفرد بنفسه ثمالةً فريدة من هذا الاتحاد الكوني. ذاك الذي ينسجم بسهولة مع الزحام يتمتع بملذات محمومة، يُحرم منها الأناني، المنغلق على نفسه كخزانة، والكسول المحجوز كمحارة. الشاعر يتبنَّى، وكأنها خاصته، كل المهن، كل المتع وكل أشكال البؤس التي يتعرَّض لها بسبب الظروف.
إن ما يُسمِّيه الناس بـالحب هو فعلاً شيءٌ صغيرٌ، محدود وضئيل، مقارنةً بهذا الفجور الفائق الوصف، بعهر الروح المقدَّس هذا الذي يستسلم بأكمله، شعراً وإحساناً، للطارئ الذي يتجلَّى، للمجهول الذي يمر.
من المستحسن أحياناً إعلام سعداء العالم، فقط لتحقير كبريائهم التافهة للحظة واحدة، بأن ثمة سعادة أكبر وأفسح وأرفع من سعادتهم. مؤسِّسو المستعمرات، رعاة الشعوب، المبشّرون المنفيون في أقصى العالم، يعرفون بلا شك بعض هذه الثمالة الغامضة؛ ومن المحتمل أنهم، في حضن العائلة الكبرى التي خلقتها عبقريتهم، يضحكون أحياناً من هؤلاء الذين يشفقون عليهم بسبب حظهم المضطرب وحياتهم العفيفة.
**** **** **** ****
- ترجمة عبد القادر الجنابي
- شارل بودلير (1821-1867) هو شاعر وناقد فني فرنسي. ويعتبر بودلير من أبرز شعراء القرن التاسع عشر ومن رموز الحداثة في العالم. و لقد كان شعر بودلير متقدما عن شعر زمنه فلم يفهم جيدا الا بعد وفاته. بودلير بدأ كتابة قصائده النثرية عام 1857 عقب نشر ديوانه ازهار الشر، مدفوعا بالرغبة في شكل شعري يمكنه استيعاب العديد من تناقضات الحياة اليومية في المدن الكبري حتي يقتنص في شباكه الوجه النسبي الهارب للجمال ، وجد بودلير ضالته فيما كتبه الوزيوس بيرتيران من پالادات نثرية مستوحاة من ترجمات البالادات الاسكتلندية والالمانية الي الفرنسية. والبالاد هو النص الذي يشبه الموال القصصي في العربية وهو الشكل الذي استوحاه وردزورث وكوليريدج في ثورتهما علي جمود الكلاسيكية.