1
لم يعدْ هناكَ ما ينتهكُ صمت الوحشة. عبر قمم الأشجار المظلمة الأكثرُ قدماً تمرّ السحب وينعكس ظلها في المياه الزرقاء الخضراء للبركة التي تبدو بلا قاع، سطحها لا حراك فيه كما لو كان في خشوع حزين، ليلاً ونهاراً.
وسط البركة ترتفعُ القلعة نحو الغيوم بأبراجها المدبّبة وسطوحها الخَرِبة. العشب ينتشر على جدرانها السوداء المشققة وأشعة الشمس ترتدُّ عن نوافذها المستديرة العمياء. في باحاتها المظلمة المخيفة تُحلِّق الحمامات باحثة عن مخبأ لها في شقوق الجدران.
ثمة ما يخيفُ الحمامات، فهي تحلِّق متردِّدةً وعلى عجل مروراً بالشبابيك. تحت، في الباحة يُمكن سماع خرير النافورة هادئاً ورقيقاً. من حوض النافورة البرونزي ترشف الحمامات العطشى بين حين وآخر الماء.
في الردهات المتربة للقلعة يمرّ أحياناً نَفَسُ حمّى عميق يجعل الخفافيشَ تحلّق مرتعدةً. عدا هذا لا يوجد ما يعكّر الهدوء.
أما قاعات القلعة فهي متربة سوداء! جدرانها مرتفعة، عارية وباردة، تتراكم فيها أشياء ميتة من خلال النوافذ العمياء يتسرَّب أحياناً شعاع يتيم سرعان ما يبتلعه الظلام. هنا مات الماضي.
هنا تجمَّد الماضي على شكل وردة وحيدة مشوَّهة، يمرّ الزمن على ظلها بلا اكتراث.
كل شيء هنا محاط بصمت الوحشة.
2
لا يجرؤ أيٌّ كان على دخول الحديقة. فأغصان الأشجار تتشابك في بعضها آلاف المرات، فتبدو الحديقة مثل كائن حيّ عملاق. تحت سقف هائل من الأغصان يُهيمن ليل لا ينتهي وصمتٌ عميق. أما الهواء فهو مليء بروائح التعفّن.
أحياناً تستيقظ الحديقة من أحلامها الثقيلة. فتشعُّ منها ذكرى ليالٍ رطبة تملأها النجوم ومخابئ سرّية كانت مغمورة بالقبل والعناق وليالي الصيف الرائعة الجمال، حيث يخلقُ القمر صوراً مضطربة على الأرض المظلمة، وثمة أناس رشيقين وأنيقين يتجوّلون بحركات ذات إيقاع منتظم تحت أوراق الأشجار، يهمسون لبعضهم كلمات عذبة مجنونة ترافقها بسمات رقيقة واعدة.
بعد ذلك تغرق الحديقة من جديد في سباتها العميق.
على المياه تنعكس ظلال الزان الأحمر والصنوبر ومن أعماق البركة يُمكن سماع همهمة عميقة وحزينة.
البجعات تطفو على مياه تتلالأ، ترفع رقابها المستقيمة الرشيقة ببطء إلى الأعلى. إنها تعوم حول القلعة الميتة ليلاً ونهاراً.
على أطراف البحيرة هناك زهور زنبق شاحبة وسط أعشاب ذات لون صارخ، ترمي ظلالاً أكثر شحوباً منها في الماء.
وحين يذبل بعضها يطلّ غيره من الأعماق. إنها شبيهة بأيدٍ نسائية صغيرة لا حياة فيها.
أسماك كبيرة تعوم بفضول يطلّ من عيونها الزجاجية الجامدة حول الزهور الشاحبة، ثم سرعان ما تغوص إلى القاع بلا ضجيج.
كل شي مشبع بصمت الوحشة.
3
مطلاً على هذا المشهد في غرفة مهدَّمة تقع في البرج يجلس الكونت. ليلاً ونهاراً.
إنه يلاحق بنظره الغيوم التي تمرُّ على قمم الأشجار مضيئة ونقية. يبتهج إذ يرى الشمس وهي تتألق من خلال الغيوم مساءً وقت الغروب. وينصت للأصوات التي تأتي من الأعلى: نعيق طائر يمرُّ قرب البرج، أو أزيز الريح العاصف إذ يمرّ بالقلعة.
هو يراقب نوم الحديقة الثقيل والعميق، ويتابع بعينيه البجعات العائمة في المياه المتلألئة، وهي تسبح حول القلعة. ليلاً ونهاراً.
المياه تشع خضراء - زرقاء. وفي الماء تنعكسُ الغيوم التي تمرّ عبر القلعة، ظلالها تسبح مضيئة تشعّ النقاء ذاته الذي تحمله. زنابق الماء تشير إليه مثل أيادٍ نسائية صغيرة لا حياة فيها وتنحني أمام أصوات الريح المنخفضة حزينة وحالمة.
الكونت المسكين يراقب كل ما يحيط به من موت مثل طفل صغير أحمق أصابته اللعنة ولم يعد قادراً على الحياة، إذ يبتعد مثل ظلال الصباح.
إنه لم يعد ينصت سوى للإيقاع الحزين لروحه: الماضي.
حين يحلّ المساء يشعل فانوسه القديم المسخَّم ويقرأ كتباً كبيرة صفراء (مصفرَّة الأوراق) عن عظمة وروعة الماضي.
إنه يقرأ وقلبه يدقّ ويشعّ حمىً حتى يغيب الحاضر الذي لا ينتمي إليه. ظلال الماضي الضخمة تقترب منه، وها هو الآن يعيش حياة آبائه الجميلة الرائعة.
خلال الليالي التي تمرُّ بها العواصف على البرج، فتصرّ قواعده وتطلق الطيور أمام النوافذ أصواتاً مذعورة، يُهيمن على الكونت حزن لا اسم له.
على روحه المتعبة ذات مئات السنين تحلُّ لعنة.
إذ ذاك يلصق وجهه بزجاج النافذة ويُبحلق في الليل. هنا يبدو له كل شيء ضخماً، مريعاً ومخيفاً كما في الحلم. العاصفة تعصف بالقلعة كما لو كانت تريد أن تكنس كل ما هو ميّت وتنثره في الريح.
غير أنه ومع انتهاء وهمِ الليل المضطرب مثل ظلّ مستحضر، يتسرَّب من جديد صمت الوحشة إلى كل شيء.
**** **** *****
- ترجمة صالح كاظم
- جورج تراكل Georg Trakl ، شاعر نمساوي يعتبر أهم رواد المدرسة التعبيرية النمساوية، ولد في سالزبورج العام 1887 وتوفي العام 1914 في كراكو (بولندا)