"أخذت الحياة من أبي وأمي أقصى ما تستطيع، واقتربا من الآخرة، واقتربت أختي التي ترعاهما من الزواج. ولكي يظل أبي رجلا كاملا كما تود أمي فقد اقترحت عليه أن يتزوج، لأنها لم تعد قادرة على الوفاء بأعبائها . لا في البيت ولا في الحقول. ولذا كان لابد لأبي من امرأة. ولكن من ؟ نصحته أمي أن يخطب ابنة أعز صديقاتها، غير أن أبي التزم الصمت. وبينما كنت أواصل دراستي في المدينة، أخبرني أحد الآتين من القرية. بأن أمي قد رحلت من البيت، وأنها سكنت بيتا صغيرا في أطراف القرية. أي كارثة هي هذه، بكيت أمي وأبي، وأختي التي ظلت مع أبي، ممزقة بين بيتين. بكيت للشعر والموسيقى وحياة بأكملها. عندما عدت إلى القرية، وجدت أبي وحده في استقبالي، قبلته على عجل بدون أن ينظر أي منا في وجه الآخر. وأخذ يمشي أمامي في اتجاه البيت، وكل منا يحمل جرحه. فتح الباب لكنه دخل بمفرده. لأني كنت قد أخذت الطريق المؤدي إلى بيت أمي. نظرت إلى خلف، رأيت أبي يمسح دموعه. ويدعوني بيده للعودة إليه. بينما كانت أختي تراقب المشهد وهي تبكي على سطح المنزل. كنت أحمل كيسا مليئا بالقهوة والهال والسكر، لتقضي أمي عيدا يليق بها. وصلت. كانت غمامة كثيفة تغطي عيني. وجفاف لم أعرفه من قبل قد استولى على حنجرتي. ومن خلال دموعي رأيت أمي واقفة كجبل مليء بالورود والأزهار. أنيقة مبتسمة، وشاعرة كما لم أرها من قبل. وبمجرد أن دخلت عاتبتي على هذه الحماقة.
-كان عليك أن تدخل مع أبيك
-أنت أمي وابي
-أنا أمك. أما بيتك فهو بيت أبيك وليس هنا
-كنت أود أن أنتقم لك
-أنا وراء ما حدث. أنا التي خططت لكل هذا، ليحافظ أبوك على مقامه وعلى ما بنيناه معا وعلى إرث العائلة وسمعتها وشرفها، وأنت تعرف أن بيتا بلا امرأة ليس إلا صحراء.
-إذن لم يطردك ؟
-لا، لقد خرجت بإرادتي، وهو يأتي يوميا هنا لرؤيتي وللاطمئنان علي، وكذلك أختك، ولقد تغذينا اليوم معا.
-إذن لماذا رحلت ؟
-رحلت لأنه لا يمكن أن تقبل امرأة الزواج من أبيك ما دمت في البيت معه ولأنه رفض أن يطلقني، فقد اخترت هذا المخرج، وسأظل أمكما، وزوجة أبيكما ونعيش الحياة كما كنا نفعل. والآن قم، فعلينا أن نذهب معا للعشاء مع أبيك وأختك.
-أود أن ننتظر غروب الشمس، وأن نذهب في الظلام، حتى لاترى القرية ما نحن فيه.
-القرية تعرفني جيدا. والذي يؤلمني الآن هو تفسيرها لموقفك أنت. سيقولون حتما "هذا ولد أمه" وهذا ما لن اقبله على الإطلاق ولا بد أن يعرفوا أتي ما زلت أتحمل مسؤوليتي في المرض والشيخوخة كما كنت في شبابي.
استقبلنا أبي بأصواته وأصوات الرصاص الذي أطلقه ترحيبا بنا. وجدنا أخواتي وأزواجهن في استقبالنا، لكن أمي كانت ضيفة الشرف بلا منازع. وبالرغم من كآبة الجو وتمزق النظرات وما تعنيه، إلا أني كنت ملزما بالتكيف مع هذا الانفصال. كان أبي أكثر تمزقا منا جميعا وأكثر عزلة. إذ يغادر البيت باكرا كل صباح، يجلس في ظل صخر أو شجرة، ويغمض عينيه كالنائم إلى أن أدعوه إلى الغذاء. في هذا الوقت كانت أمي تلح على صديقتها من أجل تزويجه ابنتها. تقدم شاب لخطبة أختي. رحبنا جميعا به، لكن الزواج الأكثر أهمية وإلحاحا بالنسبة لأمي كان دائما زواج أبي. وكانت تود أن يكون زواجا ناجحا لأنها تحس بذنب ما. إذ كيف تهزمها الحياة والمرض وتترك عشيرها وحيدا بعد حياة ملآها كرما وشعرا وسعادة. أما أبي فلم يكن يحلم بغير علاج أمي والاعتناء بها، رافضا فكرة الزواج مجددا. وكان على استعداد للتضحية بكل شيء من أجلها، إلا أنها رفضت أن ترى حياتها وقد تحولت إلى هباء، وكانت تعرف أن أختي لن تتزوج ما لم يتزوج أبي، وإن تزوجت الأخت فإن الأخ لا بد ملزم بالزواج، وهذا ما يرعب الأب. إذ لا يريد لأبنه الزواج من القرية ولا يريد له أن يظل رهينة الحقول، ولا يمكن أن يحول دون زواج ابنته، هو الذي يحلم بأن يرى أحفاده منها. لهذا ضحى بنفسه من أجلنا بالرغم من معرفته بما سيدفعه من روحه وبدنه. كان الزواج في القرية ضرورة وواجبا، ولم يكن أبدا للمتعة فقط كما يفعل بعض الأثرياء اليوم. ثم إن الزواج كان يدوم. وإذا كان من طلاق فيتم في الأغلب بناء على رغبة الزوجات. لم أعرف إلا عانسا واحدة في العائلة. وقد كانت امرأة جميلة وكريمة، عرفتها وهي مسنة. تعيش وحدها في بيت صغير، وتعد لنفسها ولائم لذيذة تدعوني غالبا لمشاركتها إياها. لكنها لم تكلمني أبدا عن أي موضوع مهم إلا عندما عرفت أن أبي سيتزوج، أخبرت أبي أنها تكلمت، قال لي "لقد وعدتنا أن تتكلم يوما ما". وبالفعل فقد أخبرتني أن أبي مضطر لبيع أحد الحقول كي يدفع المهر. وروت تاريخ حقول القرية التي تنتقل من يد إلى أخرى بفعل الزواج، مؤكدة أنه لولا الله ثم الحقول لما تزاوج الناس ولما استمرت الحياة بالتناسل والتكاثر. -لقد وجدت المشتري، قال أبي. -مشتر لأي حقل ؟ -للصغيرين. -ومن المشتري ؟ -زوج أختك، يعني "أختي-أمي" -إذا سيظلان داخل العائلة ؟ -بالتأكيد. لكنهما لم يعودا حقليك اللذين تحب. -ليكن فأنا سعيد أن أدفع مهر زواجك. كان أبي يقول إن الحقول كلها لي. قابل صهري خفية عني. ولم أعد للحقلين ثانية. أصبح زواج أبي زواجا لنا كلنا، بما في ذلك أمي، بل إنه أصبح الحديث الوحيد لأهل القريةن وكنا نعرف أن زوجة أبي صغيرة بل إنها في سن أختي، ومدللة، لأنها كانت وحيدة. وكان أبوها من البراءة والطيبة ما جعله الرجل المفضل في القرية. يحبه كل الأطفال. والنساء تدعوه "حبيب الله" التزمت أمي لأبي بأن تساهم في تعليم زوجته الجديدة كل تقاليد بيتنا وما اعتاد هو عليه بالاتفاق مع أمها، صديقتها الحميمة. وقد راهن أبي كثيرا على مساعدة أمي وأخواتي لهذه الزوجة وتأهيلها لتحمل مسؤوليات البيت والعائلة الكبيرة. في هذه الأثناء تمت خطوبة أختي لكنه كان لزاما عليها أن تنتظر مجيء زوجة أبي إلى البيت، وحددنا موعدا لزواج أختي يلي زواج أبي بأربعين يوما. تزوج أبي. أخذت "عمتي" الجديدة مكانها في البيت، وأصبحت جزءا منا. أمضت أمها الأسبوع الأول بعد الزواج معنا، لطمأنة ابنتها وللاطمئنان عليها مثلما تفعل كل الأمهات في ديارنا. وأبوها يأتي ضيفا محبوبا كل يوم لأنه هو الآخر كان صديقا حميما لأبي. أمضت عمتي الأسبوع الأول من حياتها الزوجية بنجاح أسعدنا كلنا. ما إن عادت أمها إلى بيتها القريب من بيتنا، حتى بدأت عمتي تزورها يوميا، وتقضي إلى جانب أمها وقتا طويلا، يضطر أبي أن يذهب للبحث عنها، لكنه بدا منزعجا، ولاحظنا بعض الضيق على محياه. جاءت أمي لإنقاذ هذا الزواج حيث عادت إلى البيت بضعة أسابيع. رأت صديقتها الحميمة في هذه العودة خطورة على ابنتها، فألزمتها بالبقاء نهائيا في بيت زوجها، وقد ثمن أبي عاليا هذا الموقف الحميم لأمي، وكذا فعلت عمتي الجديدة مع أمي إذ بدأت تعاملها كما لو كانت أمها الحقيقية، ونمت بين الزوجتين علاقة جعلتنا نطمئن على أمي مدى الحياة. تفرغنا جميعا لزواج أختي. كنا نوده بهيا ونادرا بالرغم من أني كنت مجروحا في داخلي وحزينا، وكنت أغطي وجهي بسعادة تعرف أختي أنها مصطنعة. جاءت فتيات القرية ونساؤها يرقصن بهذه المناسبة قبل يوم من رحيل أختي إلي بيت زوجها. يومها غنت أمي وعزف أبي للمرة الأخيرة, بينما كنت أقدم القهوة والشاي للنساء الجميلات. لابسا حزامي ومسدسا حلمت بأن أحمله منذ زمن طويل وقد أهداه لي أبي، ويومها امتدحته النساء. وأثناء الرقص كانت قوس قزحي تراني، هي التي كانت تسميني "السماء" رأيتها تمسح بعض الدموع وهي ترقص. قلت لنفسي ربما تبكي رحيل أختي التي ستغادر القرية نهائيا والتي ستصحبها أمي في سكنها الجديد وتقيم معها ثلاثة أيام أو أكثر لتوطينها ومساعدتها على امتصاص الغربة وبداياتها الحارقة. ويوم الرحيل رأيت قوس قزحي تضع صرة من القماش في يد أمي اعتقدت أنها هدية الزواج. في الأيام الثلاثة التي استغرقها غياب أمي لم أنجح مطلقا في أن أرى تلك التي تسكن في رأسي ومخيلتي، وتملأ رائحتها روحي في كل ركن في البيت. -"قوس قزحك في سماء أخرى" أسمع أبي يقولها دون تفاصيل. حملت لي أني تلك الصرة من القماش بعد عودتها، حملتها كما لو كنت أحمل قوس ق.حي، بفرح لم أعرف مثله من قبل. لا الشعر، لا المطر، ولا الحياة أبهى من تلك اللحظة. ومن العادة أن تقاسمني أني وأبي أفراحي وأحزاني، إلا أنهما كانا بعيدين جدا. ويتلافيان حتى النظر إلي. ولم تعد أختي/ذاكرتي معي. وشعرت في داخلي بصراع لا نهاية له. دعتني أمي إلى فتح الصرة بينما كان أبي قد خرج بدون أن يقول كلمة واحدة. كان يكفيني أن أشم رائحتها، أن أضمها، وأن أربطها في حزامي مدى الحياة. بدون حاجة إلى معرفة ما تحتويه. لكن أمي أصرت، رأيت خصلة من شعرها وعطرا لا يفوح إلا من قوس قزحي. -هذا ما أمكنها أن تعطيك. أما هي فقد خطبت، ولم يبق لك منها إلا ما في يديك. قالت أمي. أذكر الآن أن أمي حاولت أن تحدثني، أن تؤاسيني وتعزيني. دخلت معي في الفاجعة. لكني لم أكن أسمع شيئا على الإطلاق. ولا أحس بشيء. كنا في البيت حاولت النظر إلى الوادي. كان كل شيء ميتا فارغا. حتى النار في الموقد كانت باردة. ولا أذكر إن كنت ذهبت لرؤية حزام أم أنه هو الذي جاء إلى البيت. بدا وكأنه يعرف، لكنه كان يبتسم. أذكر أني صفعته، أخذني بين ذراعيه وهو يجفف دموعنا، آه يا حزام، آه يا قريتي. والشمس تقترب من المغيب وأبي ينادي للصلاة بصوت مليء بالحزن والدموع. اختفت القرية، ولم يبق إلا حزام الذي اصطحبني نحو الصخرة الكبيرة التي كنا ندعوها "الذاكرة" وهي الصخرة الوحيدة التي كانت تتوجها نبتة نادرة يرويها حزام كل مساء بالقرب من هذه الصخرة تدفن النساء عذاباتهن، وهكذا يفعل الشعراء. -رأيت قوس قزحك هنا ليلة أمس وهي التي روت النبتة قبلي وقد جاء دورك الآن لترويها ولتدفن هذه الصرة. ورأينا أبي وأمي وأم قوس قزحي آتين من بعيد. وضع حزام يدا على رأسي، والأخرى على الصخرة. الصخرة الذاكرة- ولم أر الشمس تشرق بعد ذلك اليوم. تزوجت "قوس قزحي" ولكني كنت قد تركت القرية حاملا معي سري الذي لا أبوح به إلا لصورة أبي. خاتمة بعد أن فرغت من كتابة هذا النص باللغة الفرنسية. عدت إلى قريتي، تلك القصيدة التي كتبوها عبر آلاف السنين. كان علي أن أرى حزام الذي لا تعنيه رؤية أحد. حياني بابتسامته الأخيرة، واتجه شامخا نحو خزانته، أتى بقليل من التمر والزبيب ثم دعاني إلى الجلوس بين يديه. ألقى نظرة شوق على كتابي. ترجمت له بعض المقاطع، لاحظ أني كنت أقرأ من اليسار إلى اليمين،
قال لي: كم أنا سعيد أن ترى العالم من طرفيه.
لم يفاجأ حزام عندما أخبرته بأني وجدت ناشرا وأن هذا الأخير دفع لي مبلغا من المال : -لقد سمعت بهذه "الدراهم النظيفة" وعرفت أنك وزعتها على أخواتك، مع أني خشيت أن تكون قد بعت القرية. -هل يبيع الإنسان روحه ؟ تمنى حزام لو أني نذرت هذا المبلغ لترميم ما أمكن من القرية. أجبته بأن أخواتي صغن من هذه الهدية نشيدا لكل القرى.
امسك بيدي وقال : "لأني قد لا أراك ثانية فسوف أعترف لك بشيء لا تعرفه : لم أكن على اتفاق أبدا مع أمك التي كانت تصر على أن القرية أغنية. ولأنك اعترفت لي بأن نساء رافقنك واحتفين بهذه العمل منذ الكلمة الأولى إلى نهايته، فإني أنحني الآن إجلالا لكل النساء اللواتي ساهمن ويساهمن في تخليد هذا النشيد وهذه القرية" هكذا حدثني حزام الذي كان واقفا مثل سيف صارم أمام بيته وهو يقول لي وداعا للمرة الأخيرة. عدت إلى باريس، وبينما كنت أعمل على تصحيح التجارب المطبعية (البروفات)، جاءت أخبار القرية لتعلمني بأن حزام في المستشفى. حزام الذي لم يكن يعترف إلا بمرض واحد هو الموت، وعلمت أن رجال القرية يتناوبون ليلا ونهارا على رعايته وحراسته. اتصلت به وكان من الصعب أن أتصور حزام عبر الهاتف. قال لي: -أهلا بالغائب. (هكذا كان يناديني منذ أن غادرت القرية. وحتى عندما كنت أعود من حين إلى آخر)
-لماذا أنت في المستشفى ؟
-لأني مريض ربما، أو هكذا يحاولون إيهامي.
-سآتي لاصطحابك معي إلى هنا. وستجد عناية فائقة من نساء أحببنك كما لو كنت أباهن جميعا.
-باكستانيات ؟
-لا، نساء هن أقرب إليك وإلينا وإلى القرية. وأود إخبارك بأن كتابي سيصدر قريبا وهو يحمل اسمك. لكن هذا الاسم تحول إلى مؤنث في اللغة الفرنسية، والحزام كما علمتنا يا حزام يكشف عن كل شيء : شاعرية النساء وكبرياء الرجال وزهوهم، وأنت يا أبتي حزام لم تخف عني شيئا منذ أن عرفتك.
-لا تأت لاصطحابي ولكن أرسل لي كتابك فربما يقرأه الأحفاد. أما أنا فقد أوصيت لك بحزامي وخنجري.
استلمت الوصية الثمينة وعلقتها إلى جانب صورة أبي.
-أنت أمي وابي
-أنا أمك. أما بيتك فهو بيت أبيك وليس هنا
-كنت أود أن أنتقم لك
-أنا وراء ما حدث. أنا التي خططت لكل هذا، ليحافظ أبوك على مقامه وعلى ما بنيناه معا وعلى إرث العائلة وسمعتها وشرفها، وأنت تعرف أن بيتا بلا امرأة ليس إلا صحراء.
-إذن لم يطردك ؟
-لا، لقد خرجت بإرادتي، وهو يأتي يوميا هنا لرؤيتي وللاطمئنان علي، وكذلك أختك، ولقد تغذينا اليوم معا.
-إذن لماذا رحلت ؟
-رحلت لأنه لا يمكن أن تقبل امرأة الزواج من أبيك ما دمت في البيت معه ولأنه رفض أن يطلقني، فقد اخترت هذا المخرج، وسأظل أمكما، وزوجة أبيكما ونعيش الحياة كما كنا نفعل. والآن قم، فعلينا أن نذهب معا للعشاء مع أبيك وأختك.
-أود أن ننتظر غروب الشمس، وأن نذهب في الظلام، حتى لاترى القرية ما نحن فيه.
-القرية تعرفني جيدا. والذي يؤلمني الآن هو تفسيرها لموقفك أنت. سيقولون حتما "هذا ولد أمه" وهذا ما لن اقبله على الإطلاق ولا بد أن يعرفوا أتي ما زلت أتحمل مسؤوليتي في المرض والشيخوخة كما كنت في شبابي.
استقبلنا أبي بأصواته وأصوات الرصاص الذي أطلقه ترحيبا بنا. وجدنا أخواتي وأزواجهن في استقبالنا، لكن أمي كانت ضيفة الشرف بلا منازع. وبالرغم من كآبة الجو وتمزق النظرات وما تعنيه، إلا أني كنت ملزما بالتكيف مع هذا الانفصال. كان أبي أكثر تمزقا منا جميعا وأكثر عزلة. إذ يغادر البيت باكرا كل صباح، يجلس في ظل صخر أو شجرة، ويغمض عينيه كالنائم إلى أن أدعوه إلى الغذاء. في هذا الوقت كانت أمي تلح على صديقتها من أجل تزويجه ابنتها. تقدم شاب لخطبة أختي. رحبنا جميعا به، لكن الزواج الأكثر أهمية وإلحاحا بالنسبة لأمي كان دائما زواج أبي. وكانت تود أن يكون زواجا ناجحا لأنها تحس بذنب ما. إذ كيف تهزمها الحياة والمرض وتترك عشيرها وحيدا بعد حياة ملآها كرما وشعرا وسعادة. أما أبي فلم يكن يحلم بغير علاج أمي والاعتناء بها، رافضا فكرة الزواج مجددا. وكان على استعداد للتضحية بكل شيء من أجلها، إلا أنها رفضت أن ترى حياتها وقد تحولت إلى هباء، وكانت تعرف أن أختي لن تتزوج ما لم يتزوج أبي، وإن تزوجت الأخت فإن الأخ لا بد ملزم بالزواج، وهذا ما يرعب الأب. إذ لا يريد لأبنه الزواج من القرية ولا يريد له أن يظل رهينة الحقول، ولا يمكن أن يحول دون زواج ابنته، هو الذي يحلم بأن يرى أحفاده منها. لهذا ضحى بنفسه من أجلنا بالرغم من معرفته بما سيدفعه من روحه وبدنه. كان الزواج في القرية ضرورة وواجبا، ولم يكن أبدا للمتعة فقط كما يفعل بعض الأثرياء اليوم. ثم إن الزواج كان يدوم. وإذا كان من طلاق فيتم في الأغلب بناء على رغبة الزوجات. لم أعرف إلا عانسا واحدة في العائلة. وقد كانت امرأة جميلة وكريمة، عرفتها وهي مسنة. تعيش وحدها في بيت صغير، وتعد لنفسها ولائم لذيذة تدعوني غالبا لمشاركتها إياها. لكنها لم تكلمني أبدا عن أي موضوع مهم إلا عندما عرفت أن أبي سيتزوج، أخبرت أبي أنها تكلمت، قال لي "لقد وعدتنا أن تتكلم يوما ما". وبالفعل فقد أخبرتني أن أبي مضطر لبيع أحد الحقول كي يدفع المهر. وروت تاريخ حقول القرية التي تنتقل من يد إلى أخرى بفعل الزواج، مؤكدة أنه لولا الله ثم الحقول لما تزاوج الناس ولما استمرت الحياة بالتناسل والتكاثر. -لقد وجدت المشتري، قال أبي. -مشتر لأي حقل ؟ -للصغيرين. -ومن المشتري ؟ -زوج أختك، يعني "أختي-أمي" -إذا سيظلان داخل العائلة ؟ -بالتأكيد. لكنهما لم يعودا حقليك اللذين تحب. -ليكن فأنا سعيد أن أدفع مهر زواجك. كان أبي يقول إن الحقول كلها لي. قابل صهري خفية عني. ولم أعد للحقلين ثانية. أصبح زواج أبي زواجا لنا كلنا، بما في ذلك أمي، بل إنه أصبح الحديث الوحيد لأهل القريةن وكنا نعرف أن زوجة أبي صغيرة بل إنها في سن أختي، ومدللة، لأنها كانت وحيدة. وكان أبوها من البراءة والطيبة ما جعله الرجل المفضل في القرية. يحبه كل الأطفال. والنساء تدعوه "حبيب الله" التزمت أمي لأبي بأن تساهم في تعليم زوجته الجديدة كل تقاليد بيتنا وما اعتاد هو عليه بالاتفاق مع أمها، صديقتها الحميمة. وقد راهن أبي كثيرا على مساعدة أمي وأخواتي لهذه الزوجة وتأهيلها لتحمل مسؤوليات البيت والعائلة الكبيرة. في هذه الأثناء تمت خطوبة أختي لكنه كان لزاما عليها أن تنتظر مجيء زوجة أبي إلى البيت، وحددنا موعدا لزواج أختي يلي زواج أبي بأربعين يوما. تزوج أبي. أخذت "عمتي" الجديدة مكانها في البيت، وأصبحت جزءا منا. أمضت أمها الأسبوع الأول بعد الزواج معنا، لطمأنة ابنتها وللاطمئنان عليها مثلما تفعل كل الأمهات في ديارنا. وأبوها يأتي ضيفا محبوبا كل يوم لأنه هو الآخر كان صديقا حميما لأبي. أمضت عمتي الأسبوع الأول من حياتها الزوجية بنجاح أسعدنا كلنا. ما إن عادت أمها إلى بيتها القريب من بيتنا، حتى بدأت عمتي تزورها يوميا، وتقضي إلى جانب أمها وقتا طويلا، يضطر أبي أن يذهب للبحث عنها، لكنه بدا منزعجا، ولاحظنا بعض الضيق على محياه. جاءت أمي لإنقاذ هذا الزواج حيث عادت إلى البيت بضعة أسابيع. رأت صديقتها الحميمة في هذه العودة خطورة على ابنتها، فألزمتها بالبقاء نهائيا في بيت زوجها، وقد ثمن أبي عاليا هذا الموقف الحميم لأمي، وكذا فعلت عمتي الجديدة مع أمي إذ بدأت تعاملها كما لو كانت أمها الحقيقية، ونمت بين الزوجتين علاقة جعلتنا نطمئن على أمي مدى الحياة. تفرغنا جميعا لزواج أختي. كنا نوده بهيا ونادرا بالرغم من أني كنت مجروحا في داخلي وحزينا، وكنت أغطي وجهي بسعادة تعرف أختي أنها مصطنعة. جاءت فتيات القرية ونساؤها يرقصن بهذه المناسبة قبل يوم من رحيل أختي إلي بيت زوجها. يومها غنت أمي وعزف أبي للمرة الأخيرة, بينما كنت أقدم القهوة والشاي للنساء الجميلات. لابسا حزامي ومسدسا حلمت بأن أحمله منذ زمن طويل وقد أهداه لي أبي، ويومها امتدحته النساء. وأثناء الرقص كانت قوس قزحي تراني، هي التي كانت تسميني "السماء" رأيتها تمسح بعض الدموع وهي ترقص. قلت لنفسي ربما تبكي رحيل أختي التي ستغادر القرية نهائيا والتي ستصحبها أمي في سكنها الجديد وتقيم معها ثلاثة أيام أو أكثر لتوطينها ومساعدتها على امتصاص الغربة وبداياتها الحارقة. ويوم الرحيل رأيت قوس قزحي تضع صرة من القماش في يد أمي اعتقدت أنها هدية الزواج. في الأيام الثلاثة التي استغرقها غياب أمي لم أنجح مطلقا في أن أرى تلك التي تسكن في رأسي ومخيلتي، وتملأ رائحتها روحي في كل ركن في البيت. -"قوس قزحك في سماء أخرى" أسمع أبي يقولها دون تفاصيل. حملت لي أني تلك الصرة من القماش بعد عودتها، حملتها كما لو كنت أحمل قوس ق.حي، بفرح لم أعرف مثله من قبل. لا الشعر، لا المطر، ولا الحياة أبهى من تلك اللحظة. ومن العادة أن تقاسمني أني وأبي أفراحي وأحزاني، إلا أنهما كانا بعيدين جدا. ويتلافيان حتى النظر إلي. ولم تعد أختي/ذاكرتي معي. وشعرت في داخلي بصراع لا نهاية له. دعتني أمي إلى فتح الصرة بينما كان أبي قد خرج بدون أن يقول كلمة واحدة. كان يكفيني أن أشم رائحتها، أن أضمها، وأن أربطها في حزامي مدى الحياة. بدون حاجة إلى معرفة ما تحتويه. لكن أمي أصرت، رأيت خصلة من شعرها وعطرا لا يفوح إلا من قوس قزحي. -هذا ما أمكنها أن تعطيك. أما هي فقد خطبت، ولم يبق لك منها إلا ما في يديك. قالت أمي. أذكر الآن أن أمي حاولت أن تحدثني، أن تؤاسيني وتعزيني. دخلت معي في الفاجعة. لكني لم أكن أسمع شيئا على الإطلاق. ولا أحس بشيء. كنا في البيت حاولت النظر إلى الوادي. كان كل شيء ميتا فارغا. حتى النار في الموقد كانت باردة. ولا أذكر إن كنت ذهبت لرؤية حزام أم أنه هو الذي جاء إلى البيت. بدا وكأنه يعرف، لكنه كان يبتسم. أذكر أني صفعته، أخذني بين ذراعيه وهو يجفف دموعنا، آه يا حزام، آه يا قريتي. والشمس تقترب من المغيب وأبي ينادي للصلاة بصوت مليء بالحزن والدموع. اختفت القرية، ولم يبق إلا حزام الذي اصطحبني نحو الصخرة الكبيرة التي كنا ندعوها "الذاكرة" وهي الصخرة الوحيدة التي كانت تتوجها نبتة نادرة يرويها حزام كل مساء بالقرب من هذه الصخرة تدفن النساء عذاباتهن، وهكذا يفعل الشعراء. -رأيت قوس قزحك هنا ليلة أمس وهي التي روت النبتة قبلي وقد جاء دورك الآن لترويها ولتدفن هذه الصرة. ورأينا أبي وأمي وأم قوس قزحي آتين من بعيد. وضع حزام يدا على رأسي، والأخرى على الصخرة. الصخرة الذاكرة- ولم أر الشمس تشرق بعد ذلك اليوم. تزوجت "قوس قزحي" ولكني كنت قد تركت القرية حاملا معي سري الذي لا أبوح به إلا لصورة أبي. خاتمة بعد أن فرغت من كتابة هذا النص باللغة الفرنسية. عدت إلى قريتي، تلك القصيدة التي كتبوها عبر آلاف السنين. كان علي أن أرى حزام الذي لا تعنيه رؤية أحد. حياني بابتسامته الأخيرة، واتجه شامخا نحو خزانته، أتى بقليل من التمر والزبيب ثم دعاني إلى الجلوس بين يديه. ألقى نظرة شوق على كتابي. ترجمت له بعض المقاطع، لاحظ أني كنت أقرأ من اليسار إلى اليمين،
قال لي: كم أنا سعيد أن ترى العالم من طرفيه.
لم يفاجأ حزام عندما أخبرته بأني وجدت ناشرا وأن هذا الأخير دفع لي مبلغا من المال : -لقد سمعت بهذه "الدراهم النظيفة" وعرفت أنك وزعتها على أخواتك، مع أني خشيت أن تكون قد بعت القرية. -هل يبيع الإنسان روحه ؟ تمنى حزام لو أني نذرت هذا المبلغ لترميم ما أمكن من القرية. أجبته بأن أخواتي صغن من هذه الهدية نشيدا لكل القرى.
امسك بيدي وقال : "لأني قد لا أراك ثانية فسوف أعترف لك بشيء لا تعرفه : لم أكن على اتفاق أبدا مع أمك التي كانت تصر على أن القرية أغنية. ولأنك اعترفت لي بأن نساء رافقنك واحتفين بهذه العمل منذ الكلمة الأولى إلى نهايته، فإني أنحني الآن إجلالا لكل النساء اللواتي ساهمن ويساهمن في تخليد هذا النشيد وهذه القرية" هكذا حدثني حزام الذي كان واقفا مثل سيف صارم أمام بيته وهو يقول لي وداعا للمرة الأخيرة. عدت إلى باريس، وبينما كنت أعمل على تصحيح التجارب المطبعية (البروفات)، جاءت أخبار القرية لتعلمني بأن حزام في المستشفى. حزام الذي لم يكن يعترف إلا بمرض واحد هو الموت، وعلمت أن رجال القرية يتناوبون ليلا ونهارا على رعايته وحراسته. اتصلت به وكان من الصعب أن أتصور حزام عبر الهاتف. قال لي: -أهلا بالغائب. (هكذا كان يناديني منذ أن غادرت القرية. وحتى عندما كنت أعود من حين إلى آخر)
-لماذا أنت في المستشفى ؟
-لأني مريض ربما، أو هكذا يحاولون إيهامي.
-سآتي لاصطحابك معي إلى هنا. وستجد عناية فائقة من نساء أحببنك كما لو كنت أباهن جميعا.
-باكستانيات ؟
-لا، نساء هن أقرب إليك وإلينا وإلى القرية. وأود إخبارك بأن كتابي سيصدر قريبا وهو يحمل اسمك. لكن هذا الاسم تحول إلى مؤنث في اللغة الفرنسية، والحزام كما علمتنا يا حزام يكشف عن كل شيء : شاعرية النساء وكبرياء الرجال وزهوهم، وأنت يا أبتي حزام لم تخف عني شيئا منذ أن عرفتك.
-لا تأت لاصطحابي ولكن أرسل لي كتابك فربما يقرأه الأحفاد. أما أنا فقد أوصيت لك بحزامي وخنجري.
استلمت الوصية الثمينة وعلقتها إلى جانب صورة أبي.
----------------------------
الحزام (مقتطف من الرواية) – أحمد أبو دهمان
مقتطف من الفصل الأخير (الحزام) أحمد ابو دهمان- دار الساقي للطباعة والنشر – الطبعة الثالثة – 2010 – (الطبعة الأولى - 2000)
أحمد أبو دهمان – روائي وكاتب سعودي تعود أصوله إلى قرية جنوبية قريبة من أبها، وهو يعيش حاليا في فرنسا وزوجته فرنسية، درس الأدب الفرنسي ، كتب رواية (الحزام) باللغة الفرنسية وأصدرتها كبرى دور النشر بباريس (جاليمار)، وطبعت الرواية سبع طبعات وأثارت ضجة في أوساط النقاد، وكانت مثار أطروحات نقدية باللغتين العربية و الإنكليزية.